العرب اللندنية: أثرت التغيرات التي شهدتها الخارطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط على أوضاع الأكراد في المنطقة وعلى سياساتهم، فعلاوة على أنّ مناطقهم تعتبر امتدادا طبيعيا في سوريا والعراق لعدة عوامل ثقافية وسياسية، فإنه قد حدثت تطورات دراماتيكية منذ يونيو 2014 على الساحة السياسية الكردية في الشرق الأوسط، في ظل سيطرة تنظيم "داعش" على العديد من المدن والمناطق في تلك المنطقة من العالم، غيرت وتيرة عملهم السياسي ودفعته أكثر نحو العسكرة، في ظل توجس تركي معلن من هذه التحركات.
وفي هذا الصدد أعدّ الباحثان جنكيز جونيس الخبير المختص في الشرق الأوسط وسياسات الأكراد وروبرت لوي مدير مركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، دراسة تحمل عنوان “تأثير الحرب السورية على سياسات الأكراد في الشرق الأوسط"، صدرت في يوليو 2015 عن المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس"، ثمّ قام بعرضها الباحث عزة هاشم في سياق ورقة بحثية صادرة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، وتطرّقا خلالها لتحليل انعكاسات الصراعات التي تشهدها المنطقة على سياسات الأكراد التي اتجهت نحو العسكرة.
ويتناول الباحثان القضية من زاويتين رئيسيتين، الأولى تركز على انعكاسات الصراع الدائر في سوريا على واقع الأكراد وشبكة علاقاتهم مع القوى الداخلية في سوريا، والتي تتضمن قوى المعارضة والتنظيمات الجهادية وعلى رأسها تنظيم داعش، بالإضافة إلى تأثير الحرب على العلاقات بين القوى الكردية المختلفة في سوريا. أمّا الزاوية الثانية فتتناول ردود الفعل الدولية على زيادة نفوذ الأكراد في سوريا، وخاصة حزب الاتحاد الديمقراطي، وانعكاسات هذا النفوذ على الأكراد في كل من تركيا والعراق.
وقد أصبح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، عقب اندلاع الانتفاضة السورية سنة 2011، أحد الأطراف الفاعلة الرئيسية في السياسة السورية، حيث خلقت الحرب الأهلية التي اندلعت هناك بيئة مُهيئة لإجراء تغيير رئيسي في سياسات وتوجهات الأكراد في سوريا. وقد عمل الحزب على استغلال ظروف الحرب التي تمر بها البلاد من أجل بناء دور فاعل له داخل سوريا وخارجها.
وقد أجملت الدراسة أهم العوامل التي ساهمت في تنامي هيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، وهي؛ أولا وجود قدر من الانضباط والتنظيم والتخطيط الاستراتيجي لدى الحزب مقارنة بالأحزاب الكردية غير المتآلفة الأخرى. ثانيا صلة الحزب القوية بحزب العمال الكردستاني، والتي منحته أيديولوجية واضحة. أمّا ثالثا فتوفّر التدريب الجيد والخبرة القتالية والأسلحة والمقاتلين لدى ميليشيات الحزب العسكرية، والتي تتمثل في وحدات حماية الشعب.
وبحلول صيف عام 2012، ومع انهيار سوريا وانقسامها إلى فصائل متحاربة، فرض الحزب الكردي سيطرته على ثلاث مقاطعات ذات أغلبية كردية في شمال البلاد، وهي الجزيرة، كوباني وعفرين. وبنهاية عام 2013 وبداية عام 2014، قام بإنشاء حكومة محلية للمقاطعات الثلاث، وجمعها تحت اسم "روجافا" (الغرب)، فيما يُعد بمثابة خطوة في اتّجاه فرض تجربة الحكم الذاتي، والتي يراقبها الأكراد في كل من تركيا والعراق وإيران عن كثب.
ولكنّ هذه الخطوات التي قام بها حزب الاتحاد الديمقراطي لا تنفي وجود شقاق عميق داخل الحركة الكردية السورية بينه وبين العديد من أحزاب 1957، التي اجتمع معظمها تحت لواء المجلس الوطني الكردي سنة 2011؛ حيث أدّت الانشقاقات في الأحزاب القديمة وإخفاقها في التّكيف، وضعف الشرعية الشعبية لها إلى تزايد جرأة حزب الاتحاد الديمقراطي. كما أنّ الأحزاب المنضوية تحت راية المجلس الوطني الكردي تعمل في الغالب خارج سوريا، وهو ما يحد من تأثيرها الداخلي.
التوجه نحو العسكرة
يرى جنكيز جونيس وروبرت لوي أنّ الحرب في سوريا هي التي أدت إلى عسكرة النضال الكردي السوري، حيث لم يلجأ أكراد سوريا في السابق إلى حمل السلاح لدعم قضيتهم هناك (على الرغم من دعمهم لحزب العمال الكردستاني في تركيا والجماعات الكردية في العراق)، ولكن ما إن تزايدت حدة القتال بين نظام الأسد والجيش السوري الحر والجماعات الجهادية، بدأت "وحدات حماية الشعب" في المشاركة عسكريا في الدفاع عن المدن والقرى الكردية.
ونظرا لوجود مصالح مشتركة بين كل من الجيش السوري الحر ووحدات حماية الشعب في التصدي للجماعات الجهادية، بالإضافة إلى أن كليهما لديه عداء تجاه نظام الأسد، فقد لجأت المجموعتان إلى التعاون الحذر، حيث كانت تسيطر الريبة على العلاقات بينهما، وهو ما جعل هذه الأخيرة تتراوح ما بين التعاون والاشتباك، تبعا للظروف المحلية والديناميات الأوسع للحرب.
وبالإضافة إلى الأكراد الذين يقطنون المناطق ذات الأغلبية الكردية، ثمة عدد آخر من الأكراد يقيمون في المناطق المختلطة مثل حلب، والذين قاموا بتنظيم أنفسهم عسكريا منذ بداية عام 2012 فيما يسمى "جبهة الأكراد"، حيث يعملون كوحدات مستقلة ضمن الجيش السوري الحر. وقد شهدت العلاقات بينهم وبين هذا الأخير توترا شديدا منذ يوليو 2013 بعد الهجمات التي شنتها الجماعات الجهادية على الأكراد في مدينة حلب.
وتعود بداية الحرب بين وحدات حماية الشعب الكردية والتنظيمات الجهادية، وخاصة تنظيم "داعش"، إلى نهاية عام 2012، عندما شن التنظيم الإرهابي هجمات متكررة للسيطرة على المعابر الحدودية والمدن الكردية؛ حيث ينظر الإسلاميون المتشددون إلى الأكراد بوصفهم أعداء أيديولوجيين لهم، فضلا عن كونهم منافسين للتنظيم في السيطرة على الأراضي والموارد.
ويرى الباحثان أن تقدم الجماعات الجهادية (والذي صاحبه تهديد لسلامة الأكراد) هو الذي دفع أكراد سوريا إلى دعم حزب الاتحاد الديمقراطي، والذي لم يقتصر على توفير الحماية، وإنما أيضا تقديم الخدمات والعمل لهم. وقد يكون دعم أكراد سوريا لوحدات حماية الشعب أكبر بكثير من دعمهم للحزب، لأن هذا الأخير يوفر الحماية الفعلية فقط للأكراد المقيمين في شمال سوريا، فضلا عن أنّ نجاح وحدات حماية الشعب في الدفاع عن مدينة كوباني (عين العرب) قد عزز أكثر من شرعيتها.
وقد اتخذت مدينة كوباني الكردية على الحدود بين تركيا وسوريا مركز الصدارة في الصراع الدائر في سوريا في نهاية عام 2014، حيث حاصرتها قوات داعش، ثم كثفت هجماتها عليها. ولم تستطع المقاومة الكردية رغم دفاعها المستميت منع العناصر الجهادية من دخول المدينة، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى التدخل من خلال شن عدد من الغارات الجوية التي استهدفت مواقع التنظيم حول مدينة كوباني، بالإضافة إلى التّعزيزات التي قدمتها قوات البيشمركة من ذخيرة وأسلحة ثقيلة، إلى أن تمّ الإعلان في 27 يناير 2015 عن الانسحاب الكامل لمقاتلي داعش من المدينة.
علاقات حذرة
صاغت تركيا سياستها تجاه أكراد سوريا في إطار سياستها العامة تجاه "حزب العمال الكردستاني"، والتي تتسم بالعداء والصراع. ويرجح الباحثان أن هذا هو ما يجعل التطورات التي تحدث في المناطق الكردية في سوريا، وخصوصا صعود حزب الاتحاد الديمقراطي والسرعة والفعالية التي نظمت الأكراد عسكريا تحت لواء "وحدات حماية الشعب"، تثير قلق أنقرة نتيجة أن الحزب الناشط في سوريا ينتمي أيديولوجيا إلى حزب العمال الكردستاني. ولذلك تخشى تركيا من أنّ مثل هذا الوضع قد يؤدي إلى زيادة قوة حزب العمال الكردستاني، ما يضع المزيد من الضغوط على عاتقها لمنح الحقوق السياسية للأكراد. ولهذا، ترفض أنقرة تطوير علاقات بنَّاءة وتعاونية مع حزب الاتحاد الديمقراطي.
وقد رفضت تركيا تقديم يد المساعدة لأكراد سوريا خلال حصار كوباني، ما جعلهم ينظرون إليها نظرة عداء، وهو ما عززته تصريحات المسؤولين في تركيا، حيث صرح مسؤول بارز في حزب العدالة والتنمية بأنّ "ما يجري في كوباني ليس مأساة، وإنما مجرد حرب بين اثنتين من الجماعات الإرهابية". وقد دفع هذا الموقف أكراد سوريا إلى اتهام تركيا بدعم التنظيمات الجهادية. وقد هددت الحكومة التركية بغزو سوريا في حال إنشاء حكم ذاتي كردي تحت قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، ومن ثم فإن كلا الطرفين ينظر إلى الطرف الآخر بوصفه أكثر خطورة من تنظيم داعش. وقد شهد العام الماضي أيضا تعاونا وثيقا بين الحركات الكردية في سوريا والعراق ضدّ تهديدات تنظيم داعش، ما جعل وحدات حماية الشعب فاعلا مهما في الحرب الدولية ضدّ هذا التنظيم الإرهابي، وهو ما أدّى بدوره إلى تعزيز الشرعية الدولية لحزب الاتحاد الديمقراطي، بيد أنّ هذا لم يؤد إلى تغير كبير في الموقف التركي.
وتتناقض حالة استمرار انعدام الثقة والصراع بين تركيا والأكراد في "روجافا" مع العلاقات السياسية والاقتصادية الجيدة بين تركيا وإقليم كردستان في العراق، ويعود هذا التحسن في جزء منه إلى أن إقليم كردستان العراق أصبح منذ عام 2005 سوقا مهما للصادرات التركية. وعلى الجانب الآخر، فإن تركيا تعد الحليف الوحيد لـ"حكومة إقليم كردستان" في محاولاتها تعزيز استقلالها الاقتصادي عن الحكومة المركزية في بغداد، ولذلك فإن "حكومة إقليم كردستان" حريصة على حماية علاقاتها مع تركيا من تأثير التصعيد في المناطق الكردية في سوريا. ويشارك إقليم كردستان العراق عن كثب في الصراع الدائر في سوريا منذ بدايته، فقد خلق النشاط الكردي في سوريا فرصة لحكومة الإقليم لتنظيم الأكراد في سوريا من خلال الأحزاب السياسية التابعة للأحزاب السياسية الكردية العراقية.
وقد كان أول دعم مهم قدمته "حكومة إقليم كردستان" في ما يتعلق بالنزاع السوري قد تمثل في المساهمة في توحيد المعارضة الكردية في سوريا عام 2011 من خلال جلب الأحزاب السياسية الكردية، باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي، تحت مظلة المجلس الوطني الكردي، وكان الهدف من هذه المساعدة تقوية تأثير الجبهة الكردية في سوريا. وقد تحسنت مؤخرا العلاقات بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحكومة إقليم كردستان بشكل ملحوظ؛ فقد عززت هجمات تنظيم داعش ضد الأكراد اليزيديين في منطقة سنجار بالعراق، التعاون العسكري بين الأكراد في كل من تركيا وسوريا والعراق. ولعبت"وحدات حماية الشعب" وحزب العمال الكردستاني أدوارا بارزة في إنقاذ اليزيديين من التنظيم المتشدد في العراق، ورفع الحصار عن سنجار. كما قامت "حكومة إقليم كردستان" بتزويد "وحدات حماية الشعب" بتعزيزات عسكرية في دفاعها عن كوباني، وأرسلت عددا من قوات البيشمركة التي كانت مزودة بأسلحة ثقيلة لدعمها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق