العرب اللندنية: تشهد الساحة السياسية الليبية أزمات مُعقدة تصاعدت حدتها في الشهور الأخيرة، حيث دخلت البلاد في أتون حرب أهلية ضارية. ولذلك جاءت المفاوضات التي احتضنتها مدينة الصخيرات المغربية برعاية الأمم المتحدة، كمحاولة لإيجاد مخرج سياسي لهذه الأزمات. وقد انتهت هذه المفاوضات بتوقيع الأطراف الليبية، باستثناء المؤتمر الوطني العام المحسوب على الإخوان، بالأحرف الأولى يوم 11 يوليو 2015 على اتفاق الصخيرات. وينص الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية، وتأسيس مجلس أعلى للدولة يتكون من 120 عضوا؛ بحيث يتولى إبداء الرأي المُلزم بالأغلبية في مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية التي تعتزم الحكومة إحالتها إلى مجلس النواب. لكن حالة الحرب المستعرة في ليبيا تنبئ بأنّ الكثير من العقبات مازالت تحول دون تطبيق ما نص عليه الاتفاق، وهو ما يوحي بدوره بمدى التعقيد الذي وصل إليه الملف الليبي.
عقبات في طريق التنفيذ
لا شكّ أن تعقد الصراع في ليبيا يؤثر على نجاح جهود الوساطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل إنجاز اتفاق الصخيرات الذي يُمثل إنجازا كبيرا، ولكنه يتضمن بعض جوانب الضعف التي تجعله هشا. ومن بين تلك الجوانب أنّ جهود ضمان التمثيل الفعَّال للأطراف المتصارعة والذي بدا أمرا مُلحا على وسطاء الأمم المتحدة، لم تفضي إلى إقناع المؤتمر الوطني الذي يسيطر على طرابلس بمعية ميليشيات فجر ليبيا بالإمضاء على الاتفاق. من ناحية أخرى، فإنّ ائتلاف فجر ليبيا بدوره بات يفتقر إلى القيادة الموحدة وكثرة الانشقاقات، بالإضافة إلى أنّ المدن الأمازيغية مثل منطقة جبال نفوسة، والتي ساهمت منذ البداية في دعمه بدأت مع حلول 2015 تنأى بنفسها عن الصراع. وهو ما أسفر عن بروز مجموعة أخرى (أغلبها من قادة فجر ليبيا)، تسمي نفسها بـ"جبهة الصمود"، وقامت بالتأثير على المؤتمر الوطني العام لعدم التوقيع على اتفاق الصخيرات. وعلى الرغم من ترحيب أغلبية الليبيين بالاتفاق، فإنّ عددا من الفاعلين السياسيين بدت لديهم مصلحة واضحة في إفشاله أو على الأقل منهم من أعلن أنه يشعر بعدم الرضاء عن تمثيله فيه.
ومن بين أبرز المعرقلين لتنفيذ الاتفاق والعاملين على إفشاله؛ عدد من السياسيين وقادة الميليشيات الذين كانوا بارزين في ائتلاف فجر ليبيا، والذين رفضوا الحديث باستمرار عن أي حل وسط، حيث أنهم يخشون ليس فقط التهميش السياسي، ولكن أيضاً المحاكمات المحتملة إذا تأسست حكومة وحدة وطنية بسبب الجرائم التي ارتكبوها في حقّ الليبيين. وإلى جانب هؤلاء، تلفت دراسة وولفرام لاشير إلى أنّ وجود جماعات أخرى غير راضية عن تمثيلها في المفاوضات، أغلبها من الأقليات كالأمازيغ والتبو، وكلاهما سبق له أن شكا مراراً من ضعف تمثيله. ويُضاف إلى هذين الطرفين، طرف ثالث يتمثل في المناطق ذات القدرات العسكرية المحدودة، والتي نأت بنفسها عن الصراعات التي شهدتها البلاد العام الماضي. وأخيراً، فإن المجموعة المعارضة الأكثر وضوحاً، والتي تعارض أي اتفاق بين القوى السياسية الليبية، هي تنظيم داعش الذي يسعى إلى التوسع في مناطق كثيرة بالبلاد.
وتشير دراسة لاشير إلى أنّ تطبيق اتفاق الصخيرات عملية صعبة، وستواجه الكثير من التحديات؛ فبالإضافة إلى الأطراف التي لها مصلحة في إفشاله، يعتبر التحدي الأكثر إلحاحا هو ذلك الخاص باتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة لإعادة الأمن في العاصمة الليبية وجميع أنحاء البلاد؛ فهذه الإجراءات ستؤدي إلى الانتقال من احتكار الميليشيات للقوة المسلحة إلى إنشاء قوة متكاملة ومحايدة في طرابلس تكون نواة لجيش نظامي يتوسع تدريجيا. ومع ذلك، فإن أحد أوجه القصور في الاتفاق هو أنه لم يحدد بشكل دقيق ما المقصود بمصطلحات مثل “وقف إطلاق النار"و"الإجراءات الأمنية”. وحتى إذا استطاعت حكومة الوفاق الوطني التخلص من بعض التحديات السياسية التي تواجهها كالجماعات المسلحة والصراع على السلطة، فإن الاقتصاد سيُمثل بالنسبة لها تحديا إضافيا، حيث انخفض إنتاج النفط بسبب الصراع الدائر بالبلاد، ومن المتوقع في ضوء انخفاض أسعار النفط العالمية أن تواجه الحكومة خطر الإفلاس بحلول عام 2016. كما تحتاج الحكومة من أجل زيادة إنتاجها من النفط، أن تقوم ببسط سيطرتها على حقول النفط التي تقع محطات تصديرها بيد الجماعات المسلحة. ولهذا تؤكد الدراسة أن حكومة الوفاق لا تواجه فقط خطر محاكاة الحكومات السابقة في فشلها في إعادة الاستثمار العام، ولكن تواجه أيضاً احتمال قيام أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية أشد خطرا ووطأة إذا اضطرت لتخفيض الرواتب والإعانات.
الدعم الدولي مطلوب
في ضوء التحديات والعقبات المشار إليها، تطرح الدراسة تساؤلا عما إذا كان الدعم الدولي قادرا على إنقاذ اتفاق الصخيرات في حالة الفشل. وتؤكد في هذا الصدد أن الحكومات الغربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لديها الرغبة في القيام بدور كبير لدعم تنفيذه، حيث أدركوا خطأ النهج المتحفظ الذي تبنوه بعد حرب 2011. لكن وعلى الرغم من الحاجة المُلحة في هذا الوقت إلى الدور الخارجي كضمان لتنفيذ الاتفاق والتحكيم بين أطرافه خاصة في الجانب العسكري المتعلق بحفظ السلام، فإن الأطراف الخارجية يجب أن تعي أن ذلك الدعم يُلقي عليها مسؤولية كبرى، كما ستكون قواتها عُرضة للميليشيات والجماعات المتطرفة، ما يتطلب ألا تكون فقط مجرد قوات حفظ سلام عادية، ولكن مجهزة للمشاركة في أي قتال عنيف. وتشير الدراسة إلى تحدّ إضافي له صلة بتقديم الدعم الدولي في ليبيا، ويتمثل في تحديد البلدان المساهمة في هذا الدعم، فبينما يُنظر إلى مشاركة الدول الأوروبية على أن لديها مشروعا استعماريا جديدا تسعى إلى تحقيقه، فإنه يُنظر كذلك إلى بلدان في المنطقة على أنها لا يجب أن تتدخل في الصراع الليبي، وهو ما يعقد هذه المسألة أكثر.
وبناء عليه تتضح محدودية قدرة الفاعلين الخارجيين على فرض الإجراءات الأمنية بالبلاد، ومن ثم يصبح عبء هذه الإجراءات مُنصباً على توازن القوى بين الأطراف الليبية ذاتها. وهذا يستلزم تشكيل قوات بقيادة شخصيات عسكرية تحترمها جميع الأطراف، تعتمد على التكامل بين القوات التي كانت تتحارب من قبل. وتحظى المساعدات الخارجية في مجال الأمن بأهمية قصوى من أجل تنفيذ الاتفاق، لكنها تُواجه قيوداً شديدة متعلقة بتجنب إلحاق الضرر بالاتفاق الهش بالأساس. فالحكومات الأوروبية حريصة على الحفاظ على التزامها السياسي للوصول لاتفاق نهائي ودعم تنفيذه بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وهذا يتطلب التنسيق المُستمر مع الأطراف الموقعة على الاتفاق، وأيضاً مع العناصر التي تسعى إلى إفشاله، كما أنّ على عاتقها التزام آخر يتمثل في بذل الجهود الدبلوماسية المستمرة لمنع الأطراف الإقليمية المتنافسة من إفساده، بالإضافة إلى التزام لا يقل أهمية عن سابقيه يتمثل في بناء الثقة بين الأطراف الليبية المتصارعة عن طريق تهدئة الخصومات فيما بينها، خصوصاً. وتشير الدراسة إلى أنّ العقوبات الموجهة كحظر السفر وتجميد الأموال، تعد من بين الأدوات القليلة المتاحة للفاعلين الدوليين لضمان تحقيق هذه الالتزامات.
وتخلص دراسة وولفرام لاشير إلى أنّه وفي حالة فشل الاتفاق سوف تنزلق ليبيا إلى الفوضى أو حرب أخرى، حيث لا توجد خطة بديلة في هذه الحالة. كما أن أي عملية عسكرية دولية ستتم لدعم حكومة الوفاق للفصل بين الأطراف المتحاربة، من الممكن أن تفشل بالنظر إلى تعدد الجهات المتصارعة وردود الفعل السلبية من وجود قوات أجنبية بالبلاد. ويعني ذلك أن تركيز الفاعلين الدوليين يجب أن ينصب على "استراتيجية الاحتواء"؛ بمعنى زيادة الجهود الدولية لفرض حظر على الأسلحة، وردع القوى الإقليمية التي تسعى إلى تأجيج الصراع.ويرى لاشير أن الضغط على الحكومات الغربية والإقليمية للتعامل مع التهديدات الموجودة في ليبيا مثل وجود الجهاديين، من شأنه أن يزيد من احتمال تدخلها في الصراع، الأمر الذي يُرجح شن عمليات عسكرية مؤقتة تقوم بها الأطراف الخارجية، ما يُضعف بدوره من فرص تسوية النزاع سياسيا. لذا، ينتهي إلى أن هذه النظرة القاتمة للأوضاع الليبية الحالية تدفع إلى البحث عن أفضل السبل المُمكنة لدعم تطبيق اتفاق الصخيرات أولا وقبل كل شيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق