استراتيجية انتهاز الفرص
عندما قررت أنقرة، مضطرّة، السماح لطائرات الولايات المتحدة الأميركية الانطلاق من قاعدة أنجرليك العسكرية في إطار الحرب الدولية على داعش، بعد أن رفضت المشاركة في التحالف الدولي الذي تقوده أميركا لمدة تجاوزت السنة، تبيّن لها، على ما يبدو، أنّ الفرصة أصبحت متاحة أمامها لتبديد أجواء سوء التفاهم مع واشنطن حول موضوع الإرهاب، وحول مساهمتها في مواجهة التنظيم المتشدد. ويأتي هذا القرار بعد أن اُتّهمت حكومة العدالة والتنمية لمرات عديدة بكونها تدعم داعش بعد أن اعتبرته قوة أساسية يمكن أن تطوّعها في خدمة استراتيجيتها القائمة على ضرورة إسقاط النظام السوري، التي وضعتها كشرط مسبق للمساهمة في التحالف الدولي، والّذي تتلخص مهامُه، وفق تقديرها، في تحقيق غايتين، في آن واحد، هما: محاربة داعش والعمل على إسقاط نظام الأسد في سوريا.
وقد حاولت أنقرة أن توحي بأنّ تحركها العسكري في المنطقة يدخل ضمن اتفاق تام وبتنسيق وثيق مع واشنطن، فتحدثت على لسان رئيس وزرائها داود أوغلو، عن موافقة الولايات المتحدة على إقامة "مناطق آمنة" في عمق التراب السوري بل وموافقتها أيضا، بشكل ضمني على الأقل، على تأمين الغطاء الجوي لقوى المعارضة التي ستعمل على ملء الفراغ في المناطق المتاخمة للحدود السورية التركية، التي يتم طرد تنظيم داعش منها. وهو ما حرصت الإدارة الأميركية، إلى حد الآن، على عدم مجاراتها فيه، بل إنّ عددا من المسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية نفوا حصول مثل هذه الموافقة على إنشاء “مناطق آمنة”. كما أن منسق قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش، جون آلن، أكّد أنّ أميركا ليس لديها أيّ تفاهم مع أنقرة حول المناطق الآمنة وأنّها إذا قرّرت دخول قواتها العسكرية إلى سوريا فسيكون ذلك بمبادرة منها وليس لواشنطن أيّ دور في ذلك. وإدراكا منها لما يمكن أن تثيره هذه التحركات العسكرية من ردود أفعال على المستوى الدولي، لا سيما أنها قررت فتح جبهات متعددة في آن معا، حيث قامت بشن غارات جوية على تنظيم داعش في سوريا وعلى قوات حزب العمال الكردستاني في جنوب تركيا وفي إقليم كردستان العراق بشكل متزامن، حاولت خلال الفترة الأخيرة تحييد ما يمكن تحييده من القوى الدولية وتحصيل أكبر دعم ممكن لخياراتها العسكرية تلك. وفي هذا السياق، اتصلت انقرة بالأمم المتحدة لتعلمها بشأن تلك التحركات، كما أجرى أردوغان مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي بوتين، لم يستبعد مُراقبون سياسيون أنهما تناولا خلالها طبيعة وحجم العملية العسكرية التي تشنها تركيا.
وقد دعت أنقرة، من جهة أخرى، إلى عقد اجتماع طارئ للحلف الأطلسي على أساس أنّها تُواجه تهديدات جدية لأمنها القومي بعد التفجيرات التي حدثت في البلاد، والتي ألقت فيها المسؤولية على داعش، إضافة إلى التهديد الذي يُمثله تمدّد القوات الكردية شمال سوريا، والذي يؤشر بالنسبة إليها على تحولات يمكن أن تؤدي إلى إقامة كيان كردي يشكل تهديدا مباشرا لها. غير أن التأمل في نتائج اجتماع الحلف الأطلسي، الذي انعقد الثلاثاء الماضي في العاصمة البلجيكية بروكسل، يفيد بأنّ الحلف لم يتجاوز في العمق إعلان التضامن التقليدي مع تركيا والدعم العام لتحركها العسكري في حدود عدم تجاوز ما يسمح به الحق في الدفاع عن النفس وتركيز الاهتمام أكثر على الانخراط في الحرب الدولية لمواجهة داعش. وأعلن الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، أن "كل الحلفاء أكدوا لتركيا تضامنهم ودعمهم الحازم"، وأنّ "الإرهاب يشكل تهديدا مباشرا لأمن أعضاء الحلف الأطلسي وللاستقرار والازدهار الدوليين”. وأشار إلى أنّ تركيا لم تطلب “وجودا عسكريا إضافيا للحلف"، مؤكدا إقرار الحلف "بحق تركيا في الدفاع عن نفسها". وعلى الرغم من وضوح دلالة هذه التصريحات، إلا أنّ أردوغان رأى فيها، وفق نظرية انتهاز الفرص التي تقوده، ضوءا أخضر أميركيا وأطلسيا لتنفيذ استراتيجيته، خاصة أنّ الأوضاع الداخلية التي تعيشها بلاده قد انقلبت ضده منذ أن خسر الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية الأخيرة. ويبدو أنّ هذا الواقع الجديد هو الذي تحكّم في سلوكه السياسي، الذي يهدف من خلاله إلى رفع التوتر في المنطقة وتوجيه أصابع الاتهام إلى الأكراد، بما من شأنه أن يدفع إلى قلب المعادلات الداخلية في ظل انتخابات سابقة لأوانها من المحتمل الدعوة إلى إجرائها قريبا، متى فشل داود أوغلو في تشكيل حكومة ائتلاف وطني.
تخبط سياسي واستراتيجي
يبدو أن الرئيس التركي أردوغان أخطأ التقدير في علاقاته مع حلف شمال الأطلسي مرّات عديدة خلال سنوات عمر الأزمة السورية، وخاصة بعد ظهور تنظيم داعش الإرهابي، الذي لقيت نشاطاته في المنطقة نوعا من غضّ الطرف التركي إن لم نقل دعما غير مباشر من خلال تسهيل تحركاته وتزويده بما يحتاج من المساعدة الاستخباراتية واللوجستية، وفق اتهامات صدرت عن وسائل إعلام تركية. ومن الواضح أن أخطاء أردوغان في تقدير الأوضاع الميدانية والسياسية الإقليمية والدولية، هي التي جعلته يتجه في كثير من المرات نحو الحلف الأطلسي، معتقدا أن الملفات التي سيعرضها أمامه على درجة من القوة والتماسك لن يجد معها حلفاؤه أي ثغرة يمكن من خلالها التقليل من أهميتها أو نسفها، لكن يبدو أن الحكومة التركية لم تدرك بعد أن الذي يحرك الحلف الأطلسي هو رؤيته الاستراتيجية إلى العالم والتوازنات الّتي ينبغي أن تكون لها الأولوية على ما عداها من قضايا إقليمية، رغم أهميتها القصوى بالنسبة للدول التي تطرحها على بساط البحث والتحليل.
وفي هذا الصدد لم يكن اعتراف قيادة الحلف الأطلسي بأهمية القضايا الإقليمية بالنسبة للدول المعنية بها مباشرة، لا سيما إذا كانت تتمتع بالعضوية الكاملة فيه، يوما هو المحدد الرئيس لتحركات الناتو، بل على العكس من ذلك، فإنّ الحلف يولي الأهمية القصوى لما يتطابق مع واقع استراتيجيته الدولية؛ أي أن الذي يحدد طبيعة تحركاته هو ما يدخل في جوهر استراتيجيته الدولية التي ينبغي تكييف كل القضايا الإقليمية معها، وإلا فإن هذا يعني عمليا إخضاعه لرغبات واستراتيجيات بعض أعضائه الإقليميين، وهو ما يتناقض مع أي منطق عقلاني على المستويات السياسية والاستراتيجية. وقد أدّى إخفاق الرئيس التركي في إدراك جوهر هذه المعادلة أو تجاهلها إلى إحراجه، ذلك أن طلبات أنقرة بالتدخل العسكري في هذه المنطقة أو تلك، لطالما كانت ترفض بشكل دبلوماسي لبق تختصره عبارات التضامن التقليدية معها، دون المرور إلى الخطوات العملية. وقد تجلى هذا الموقف في وقت سابق عندما أسقط النظام السوري طائرة حربية تركية، وها هو اليوم يتكرر مرة أخرى مع الاجتماع الأخير الذي عقده الناتو. وقد تميّز هذا الاجتماع بنقد ضمني تمّ توجيهه إلى الحكومة التركية، يبرز حرص حلفائها في الأطلسي على ضرورة أن تكون الأولوية في استراتيجية تركيا هي محاربة داعش، باعتباره يشكل خطرا إقليميا ودوليا داهما، وعدم تجاوز مستوى بعينه في مواجهة الأكراد من خلال الحرص على عدم تقويض مساعي السلام مع حزب العمال الكردستاني وعدم تجاوز احترام التناسب بين مستوى التهديد الذي يمكن أن تكون تركيا تستشعره وبين ردها العسكري لرفع تحدياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق