العرب اللندنية: تدل الكثير من الأمثلة، على أوجه الشبه الكثيرة بين تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، وبين التنظيم الأم المتمركز في العراق وسوريا، ومن أبرزها ما عمد إليه "داعش ليبيا" مؤخرا من إعلان عاصمته في مدينة سرت الليبية، منتهجا نفس الأساليب والخطوات التي سبق أن قام بها التنظيم الأم إبان سيطرته على مدينة الموصل في العراق، ومدينة الرقة في سوريا. وقد سهلت العديد من الأمور مهمة التنظيم وساعدته في السيطرة على سرت، فخلافا للوضع في مدينة درنة (منشأ التنظيم في ليبيا) لم تبق في سرت أيّ فصائل متمردة تنافسه على السلطة. ويعود ذلك إلى عدة تطورات، من بينها الانشقاقات التي شهدها الجناح الجهادي المحلي لتنظيم أنصار الشريعة، والتسويات التي توصل إليها داعش مع القبائل المحلية، وانضمام عدد من أنصار العقيد الراحل معمر القذافي في سرت (مسقط رأسه) إلى التنظيم أو رضوخهم لاستيلائه على المنطقة، بطريقة مماثلة لما قام به البعثيّون سابقا في العراق. ونتيجة لذلك، قد تصبح سرت عما قريب عاصمة تنظيم داعش في ليبيا، مثلها مثل مدينتي الرقّة في سوريا والموصل في العراق.
إرساء الأسس
نظرا لقيام تنظيم داعش في ليبيا باستيعاب شبكة أنصار الشريعة في صفوفه، مقنعا إياهم بتقديم البيعة لزعيمه أبوبكر البغدادي في أواخر خريف 2014، فقد وجد بذلك أرضية جاهزة للبناء عليها وتوظيف نفوذه في المنطقة. فقد كانت سرت أول مدينة ينشط فيها تنظيم أنصار الشريعة خارج قاعدته في بنغازي، بدءا من أواخر يونيو 2013. ومنذ ذلك الحين، أصبحت سرت القاعدة الثانية له من حيث كثافة الفعاليات. وقد شارك تنظيم أنصار الشريعة بأنشطة مختلفة من الحوكمة و”الحسبة” (المساءلة) و"الدعوة" في المنطقة، حتى أن نشاطه امتد في بعض الأحيان إلى مناطق أخرى في خليج السدرة (خليج سرت) مثل النوفلية وبن جواد. وعلى صعيد الحوكمة، وفّر التنظيم دوريات أمنية في أحياء متعددة وفي "جامعة سرت"، وشارك في حل القضايا بين القبائل والعشائر (كانت بعضها من مدينة مصراتة البعيدة)، ونظم السير، ونظف الطرقات، من.
وفي ما يخص الحسبة (أي النظام الذي تؤتمن بموجبه أي “دولة” إسلامية في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) نفذ التنظيم عقوبة "التعزير" (وهي مجموعة عقوبات جسدية وغير جسدية يترك أمر إقرارها للسلطات، بخلاف العقوبات التي حددها القرآن)، وصادر المخدرات والسجائر والكحول وأتلفها. وكذلك، شارك التنظيم بتوفير خيم للـ"إفطار" وبتوزيع الهدايا على الأطفال خلال شهر رمضان، كما أعطى دروسا حول كيفية الحج، ووزع الذبائح خلال عيد الأضحى، وما إلى غير ذلك من الأمور التي كان يهدف من خلالها إلى جلب تعاطف الناس معه وإحكام سيطرته جيدا على المنطقة. وقد أسهمت تلك الخطة التي عمد إليها أنصار الشريعة، في تمهيد الطريق أمام تنظيم داعش الذي استفاد من وجود جهاز قوي في سرت عندما بدأ بالدخول إلى المدينة، التي توفر الآن المناخ الملائم لنمو هذا التنظيم في ليبيا.
وكان تنظيم داعش (ليبيا) قد نشأ في مدينة درنة في أبريل 2014، عندما كان يطلق على نفسه اسم “مجلس شورى شباب الإسلام”. وبعد أن قامت "كتيبة شهداء أبوسليم"(التي تضم أعضاء سابقين في "الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة") بطرد عناصره من درنة في منتصف يونيو 2015، أصبحت سرت هي الأولوية الأساسية في برنامج التنظيم لبناء دولته التي يطمح لها. وقد بدأ داعش بالفعل، منذ ذلك الوقت، بتكريس وجوده في سرت وفي مدن أخرى رئيسية في المنطقة من بينها النوفلية وهراوة. وكان التنظيم قد حاز على دعم من المنشقين عن أنصار الشريعة في سرت منذ أكتوبر 2014، ولكنه لم ينشط علنا في المدينة حتى أوائل يناير الماضي، وذلك من قاعدته في "مركز مؤتمرات واغادوغو". وكانت سرت أيضا هي الموقع الذي أعدم فيه تنظيم داعش الرهائن المصريين المسيحيين في منتصف فبراير الماضي، وكذلك الرهائن الأثيوبيين المسيحيين في منتصف شهر أبريل. وتقدمت حملة داعش للسيطرة الكاملة على سرت بسرعة في 8 فبراير 2015، عندما استولى على مدينة النوفلية التي تقع على بعد حوالي 90 ميلا (150 كيلومترا) إلى الشرق. ويبدو أنّ المنشقين عن أنصار الشريعة وفّروا دعما لوجستيا لعناصر داعش لدخول المدينة، وبعد تأمين النوفلية، دعا التنظيم سكان المدينة إلى تقديم "البيعة" إلى أبوبكر البغدادي، وعين علي القرقعي (الذي يعرف أيضا باسم أبوهمام الليبي) زعيما جديدا في النوفلية. ونتيجة لذلك، اكتسبت الجماعة أول قاعدة فعلية لها في منطقة سرت ككل. ومنذ ذلك الحين، ركز التنظيم على أنشطة متعددة في المنطقة، فأقام منتديات للتواصل مع السكان، وأتلف السجائر والكحول ومخازن مليئة بما يعتبرها “مواد للشعوذة"، كما وزع منشورات للـ"دعوة" وبدأ في تدريب المجندين الجدد.
وبعد أسبوع من السيطرة على النوفلية، بدأ التنظيم يتخذ خطوات أكثر جرأة في مدينة سرت، باستيلائه على محطة الإذاعة، وأستوديو قناة "ليبيا الوطنية" التلفزيونية، ومركز الهجرة، و"مستشفى ابن سينا"، و"جامعة سرت"، والمباني الحكومية المحلية. وبحلول ذلك الوقت، كان التنظيم قد سيطر على أكثر من نصف المدينة وعين قائدا محليا، هو أسامة كرامة، نسيب أحد ضباط المخابرات السابقين في نظام القذافي. وقد دفع ذلك بالكتيبة 166 التابعة لقوات "فجر ليبيا" المصراتية إلى إطلاق حملة مضادة تهدف إلى استعادة السيطرة على سرت، إلاّ أن تلك الجهود باءت بالفشل لأنّ الكثير من القادة في مصراتة كانوا يشككون في ذلك الوقت في تسلل تنظيم داعش فعلا إلى سرت، وكانوا يرون أن الأولوية هي محاربة قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر في الشرق.
وفي أواخر مايو، سيطر التنظيم على قاعدة القرضابية الجوية وعلى مشروع "النهر الصناعي العظيم" للري، ثم في 9 يونيو، استولى على محطة توليد الكهرباء في سرت، الأمر الذي منحه سيطرة كاملة على المدينة. وبعد ذلك، بدأت عناصره بنهب منازل السياسيين المحليين وتدميرها. وسيطر داعش، بعد ذلك على قرية هراوة، الواقعة في منتصف الطريق بين سرت والنوفلية. وقد عزّزت تلك الخطوة سيطرته على رقعة من الأراضي يبلغ طولها حوالي 125 ميل (200 كلم). ولم تظهر حتى الآن بوادر تذكر عن بدء التنظيم بممارسة أنشطة الحوكمة في هراوة، مركزا عوضا عن ذلك على توزيع منشورات الدعوة والأقراص المدمجة، وإتلاف السجائر وغيرها من المواد التي يعتبر أنها "محرمة"، وعلى توزيع "زكاة الفطر" (للفقراء في نهاية شهر رمضان)، كما زعم أنه حرر عددا من السجناء المصريين المسلمين الذين اختطفهم قطاع طرق "فاسدون"، وألقى القبض في إحدى الحالات على لص، وكلها خطوات معهودة لدى التنظيم القصد منها إثارة إعجاب السكان ضمانا لولائهم.
بناء "الدولة" في سرت
أصبح تنظيم داعش، منذ يونيو الماضي، أكثر تمرسا في عملياته في سرت، وحتّى متخطيا جهوده السابقة في درنة، ويعود ذلك إلى غياب أي منافس له في تلك المدينة الجديدة. وقد توجه الكثير من عناصر التنظيم غربا للمساعدة في تعزيز جهود السيطرة والحوكمة هناك. ورغم أنه ما زال يمارس أنشطة الدعوة والحسبة، إلا أنه دخل الآن في طور بناء الدولة، حيث يريد أن يثبت للسكان أن الحياة مستمرة وأن وجوده في المنطقة أمّن لهم الحياة الطبيعية والاستقرار. وقد مارس التنظيم الأم جهودا مماثلة في الخريف الماضي في العراق وسوريا، حيث رفعت عناصره أعلام التنظيم السوداء بفخر على أعمدة الكهرباء، كما نصبت لوحات لـ"دعوة" في جميع أرجاء المدن، وقامت بجولات في مختلف المصانع، وسلطت الضوء على مشاريع التنظيم العامة، ونشرت صورا تظهر جمال الحياة والهدوء في ما يسمى بدولة "الخلافة". وبالمثل، أظهرت عناصر التنظيم في مدينة سرت تبجحا بصور للمدينة وبمرفأ سرت وبالأسواق المكتظة ومتاجر البقالة المليئة بالمنتجات. وزينت أيضا مدخل المدينة بالأعلام السوداء. إجمالا، لقد اكتسب داعش، بعد سيطرته على سرت، قاعدة أكثر ثباتا من محاولاته الفاشلة في درنة، وأنشأ عاصمته الأولى خارج سوريا والعراق. والثابت أن التنظيم سيسعى لمدّ نفوذه إلى المناطق المجاورة مستغلا العداوات المتشابكة بين العديد من الفصائل في ليبيا. والأمر الذي يثير المزيد من المخاوف، أنّ التنظيم سيكتسب قوة هائلة إذا تمكن من ربط أراضيه في منطقة سرت بمنطقة الجفارة وسط البلاد، علما أن الأخيرة تتضمن حقل المبروك النفطي ومدينة ودان، التي تشكل خط إمداد أساسي لقوات فجر ليبيا، التي يقال إنها ساعدت التنظيم على السيطرة على سرت، بين منطقـتي مصراته وسبها، وتقاطع طرق محوري للكثير من الشبكات الإجرامية التي يأمل تنظيم داعش بالسيطرة عليها، وهو يحاول أيضا استمالة المزيد من القبائل في منطقة فزان جنوبا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق