العرب اللندنية: تحتاج أي ثورة في الشؤون العسكرية والمدنية في الوقت الراهن إلى إعادة تعريف الأمن الدولي من خلال الوقوف على عدة عوامل. وتشمل هذه العوامل الشكوك الجديدة في أوروبا والتوترات المتصاعدة في آسيا، والنزاعات العسكرية والمدنية الوحشية الجارية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حيث أنّ كلّ منطقة تشهد تهديدات جديدة هي في حاجة إلى أشكال جديدة من الأمن. ويعتبر التطرف الديني العنيف والإرهاب الدولي والأدوار المستحدثة للجهات الفاعلة غير الحكومية، تأكيدا جديدا على أنّ الحرب لم تعد متكافئة بالاعتماد على مفهوم الحرب التقليدية، وهو ما يدفع إلى إعادة النظر في هذا المفهوم وفي كل أشكال التعاون المتاحة في مجال الأمن الوطني والقومي، والأدوات التي يتم استخدامها في مواجهة هذه التهديدات المتغيرة. وقد أجبر صعود الجهات الفاعلة غير الحكومية بالتزامن مع تنامي المشاكل الطائفية المتصاعدة والصراعات الأهلية القائمة هنا وهناك، الجميع على إعادة التفكير في دور هذه الجهات المدنية ومدى قدرتها على المساهمة في التقليص من وطأة تلك التهديدات ومجابهة الأخطار. وهو ما فرض بدوره التفكير في خلق آليات جديدة للتعليم والتدريب وخطط للعمل المشترك قادرة على التأقلم مع كل المستجدات.
وتواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها، على سبيل المثال، الآن تهديدات من الدول التي فشلت فيها مراحل الانتقال الديمقراطي والتي أضحت تشهد صراعات أهلية حادة وتشملها حالة من الفوضى العارمة، بالإضافة إلى تهديدات المتطرفين الدينيين الكونية، وكلّها تستوجب لمجابهتها خصائص عسكرية متطورة تعتمد على المعاضدة المدنية، التي يسهم فيها المواطن الفرد أو المنظمة المدنية غير الحكومية بطرف، والتي تتطلب بدورها اتّباع نهج أوسع للتعاون في المجالات الأمنية. ويعني هذا وجود حاجة ملحّة إلى التفكير والتصرف والتركيز على القيام بثورة تتعلق بمفهوم الحرب وبآليات تسييرها. ولذلك يعدّ تحقيق ثورة في الشؤون العسكرية والمدنية استجابة للدور الجديد للفاعلين الوطنيين والإقليميين غير الحكوميين، إلى جانب العمل على الاستغلال المنظم للانقسامات والتوترات بين السكان من دول ومناطق معينة. ويحتاج التصدّي إلى التهديدات الجديدة المتنامية إلى صياغة مفهوم جديد للحروب العسكرية والأدوار المدنية، وإلى إقامة شراكات أكثر مرونة وتكيّف في مجال الأمن بين الطرفين (الأمنيين والمدنيين).
نجاعة المعاضدة المدنية
تفرض التحديات الأمنية الجديدة أن يكون للجهود الأمنية الوطنية والإقليمية، سواء تلك التي تقوم بها القوات العسكرية أو قوى الأمن الداخلي، شركاء من المدنيين، يتبنون نهج الحكومات بشكل كامل في التعامل مع أسباب كل التهديدات وعلى رأسها التطرف الديني وجل المشاكل الأخرى التي نتجت عن الاضطرابات الواسعة التي حدثت في العالم منذ العام 2011. وتحتاج الجهود المبذولة في سبيل توفير الأمن الدائم والاستقرار، إلى بعد مدني وسياسي كبير يعاضدها. ويمكن أن تتم مساعدة الحكومات وقوات الأمن الوطني على إنجاز مهامها زمن الصّراعات عبر المساهمة في رأب الانقسامات داخل المجتمع، والتعامل مع أسباب انحياز السكان، ومعالجة العوامل التي يتم استغلالها من جانب الجماعات المتطرفة مثل تسهيل تمويلها واستقطابها للمتطوعين. وتأتي هذه الحاجة إلى المعاضدة المدنية، التي أثبتت نجاعتها منذ التجارب الأولى، في ظلّ عجز الأساليب القمعية لوحدها عن حل تلك القضايا الشائكة، كما يجب أن تكون أي إجراءات أو استراتيجيات تعتمدها قوات الأمن خاضعة لسيادة القانون، ولنهج جديدة في الاعتقال والحكم بالسجن، إلى جانب بذل جهود أكبر من أجل استعادة المتطوعين والمؤيدين للتطرف.
ويعدّ كلّ تمرد واسع النطاق أو حرب أهلية أو حالة وجد فيها الإرهاب موطئ قدم، بمثابة تحذيرات للحكومات والجهود الأمنية، تنبههم إلى أنّ التركيز لا يجب أن ينصب بشكل كامل وحصري على المتطرفين الدينيين كما لو أنّهم المصدر الوحيد لمثل تلك التهديدات، فهنالك عوامل أخرى لا تقل أهمية عنهم وجب التنبه إلى خطرها. ولكي تنجح دولة ما في الحدّ من الأخطار المحدقة بها إلى أقصى الحدود الممكنة، عليها أن تعالج تأثير الضغوط الديموغرافية الداخلية وحركات التحضر والسكان والتنمية الاقتصادية المحدودة وسوء توزيع الدخل والخدمات الحكومية، بالإضافة إلى مجابهة غول البطالة واستشراء الفساد، والتهديدات الهيكلية الأخرى للأمن الداخلي، والتي أدّت إلى تقسيم الدول ودفعتها إلى الصراعات الأهلية. كما يجب أن تقيّم قوات الأمن الوطني هذه العوامل تقييما موضوعيا، وتطوّع أساليبها لخدمة الجهود العسكرية والمدنية المشتركة التي تبذلها. ولا يعدّ هذا الأمر سهلا خاصّة في البلدان التي شهدت حالات من الصراع وشملتها تدخلات عدّة وإجراءات من عدد من الفاعلين الدوليين، حيث تم تقسيمها بشكل مطرد استنادا إلى أسس طائفية أو عرقية أو قبلية أو إقليمية، حيث أنّ هذه الانقسامات لو ذهبت بعيدا ووجدت من يشحذها، فهي كفيلة بأن تستعصي على أفضل الجهود الأمنية الداخلية التي تهدف إلى منع حدوث اضطرابات سياسية بمقدورها أن تدمّر بنية الحكم والقواعد السياسية، كما أنها يمكن أن تمنع ظهور قادة وطنيين جدد قادرين على بناء الوحدة الوطنية.
شراكة استراتيجية
لا مناص أنّ الحاجة إلى نهج عسكري مدني أوسع لتحقيق الأمن القومي، تتطلب إحداث ثورة كبرى في الشؤون العسكرية، أو بشكل أدق ثورة في الشؤون العسكرية المدنية، على غرار التغيرات الحاصلة في الأشكال التقليدية للحرب. ويتطلب هذا التحول أشكالا جديدة من التعاون الدولي من أجل إيجاد أفضل السبل العسكرية المدنية لهذه المشكلة. وهو ما يحتاج بدوره إلى أشكال جديدة من التخطيط لتكتمل الجهود العسكرية والمدنية، وإلى استراتيجية تتضمن استخدام أفضل الطرائق لتنفيذها، وتقييم فعالية بقية الطرائق التي تتطلب المزيد من النفقات. وكل ذلك في حاجة إلى أشكال جديدة من التدريب الرسمي وكذلك إعداد دراسات مناسبة لاستخدامها في مجال دراسة الأمن القومي. ويمكن لتوسيع دور الاستخبارات أن يكون ناجعا في هذا السياق، إلى أبعد من مجرد تحديد التهديدات الإرهابية وعمليات التمرد، بل إلى أبعد من ذلك بكثير. وهذا يعني أن القوات العسكرية يجب أن تقوم بأكثر من مجرد تحقيق نجاح تكتيكي وإيجاد شركاء لمواجهة التطرف والتمرد وإقامة جهود عسكرية ومدنية من أجل كسب دعم دائم من السكان المحليين، وهو ما من شأنه أن يُسهم في ترسيخ الحلول الدائمة، ضمن شراكة استراتيجية دائمة وواضحة المعالم، بدل التعويل على الحلول الظرفية قصيرة المدى. كما يتطلب ذلك صياغة مقاربة جديدة للتعاون والتحليل والتدريب والتعليم والاستخبارات والتقييم والتخطيط والعمليات التي تركز على البعد المدني، والأيديولوجي، والحرب غير المتكافئة، والجهات الفاعلة غير الحكومية، بشكل يختلف عما كان سائدا في الحروب التقليدية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق