وكالات: كانت أبرز التهديدات التي يواجهها تفعيل اتّفاق السلام في مالي، تكمن في ردود الأفعال السلبية للمجموعات الانفصالية المسلّحة المقصاة من توقيع الاتفاق الذي جرى في العاصمة الجزائرية على مرحلتين في مايو ويونيو الماضيين، إلاّ أنّ "الانتهاك الأخير" للمعاهدة ذاتها، (هجوم جماعات الدفاع الذاتي الموالية لحكومة باماكو الإثنين الماضي على بلدة أنفيس والسيطرة عليها)، من شأنه عرقلة تطبيق بنود الاتفاق، ومصادرة دور البعثة الأممية (مينوسما)، في تفعيل دورها كحكم محايد بين أطراف الصراع. تهديدات مزدوجة تمثلّها، في الآن نفسه، الأطراف الموقّعة (باماكو ومجموعات الدفاع الذاتي الموالية للحكومة) وغير الموقّعة (المجموعات المتشدّدة) على الاتفاق، وتترجمها الأحداث على الأرض. وانطلاقا من الهجمات التي استهدفت، في يونيو الماضي، مناطق الشمال الغربي وجنوبها في مالي، مرورا بعملية احتجاز الرهائن في سيفاري، وسط البلاد، في 8 أغسطس الجاري، وصولا إلى الاشتباكات العنيفة التي اندلعت، منذ الاثنين الماضي، بكيدال، شمال البلاد، بين الميليشيات الموالية للحكومة المركزية في باماكو والمجموعات الانفصالية المسلّحة التابعة لـ "تنسيقية الحركات الأزوادية"، أبرز المجموعات الطوارق في منطقة الشمال، والتي أسفرت عن مقتل العشرات، بحسب مصادر متفرّقة، يبدو من الواضح أنّ بنود السلام المرجو قد لا تلقى أرضية تفعيل مناسبة.
ويقول عبدالقادر درامي، المستشار المستقل حول المسائل الأمنية في الشريط الساحلي الأفريقي والصحراء "إنّ هذه المنطقة التي تعتبر، منذ 2012، مسرحا للهجمات الإرهابية التي تقودها أطراف غير موقّعة على اتفاق الجزائر، تشهد، منذ أسابيع، تجدّدا لأعمال العنف فيها، وليس ذلك فقط، وإنّما توسّعا ميدانيا لدائرة الاشتباكات، ينبئ بالخروج عن الإطار التقليدي لمحور الصراع الدائر بين باماكو والمجموعات الانفصالية، ويهدّد جزئيا اتفاق السلام الموقّع بين أطراف الأزمة في مالي". ويقول دبلوماسي أفريقي، فضل عدم ذكر اسمه، بصدد مباشرة عمله في العاصمة باماكو، إنّ من يقف وراء الهجمات الأخرى، هي أطراف أقصيت من اتفاق الجزائر لعدم اندماج مطالبها أو مخطّطاتها المتشدّدة مع المشروع الوطني المالي، مثل جماعة أنصار الدين، وبعض الفصائل التابعة لها، على غرار قوة تحرير ماسينا لمؤسسها أمادو كوفا، فهذه المجموعات كثّفت من هجماتها بغرض الإبقاء على وضع الفوضى، وهي الطريقة الوحيدة للحفاظ على نشاط التهريب الذي يدرّ أموالا تمكّنها من تحقيق مشروعها الخاص، المتمثل في إنشاء دولة قوامها التطرف”، على حدّ تعبيره.
وأضاف أنّ تنظيمات أخرى يربطها جوار أيديولوجي بهذه الفصائل المتشدّدة، انضمّت إلى التكتيك ذاته، أبرزها تنظيم "القاعدة في غرب أفريقيا"، أو ما كان يعرف بـ"المرابطون"، إلى جانب “القاعدة في المغرب الإسلامي”. مشهد لم يتمكّن من الإفلات من تشتّت بدا من الواضح ألاّ شيء قادر على دحضه سوى التنديدات المستنكرة لتلك الهجمات الدموية وأعمال العنف المتواترة، والتي برزت كنقطة الالتقاء الوحيدة بين محوري الصراع في الشمال المالي؛ الحكومة المركزية والمجموعات المسلّحة ممثّلة في "تنسيقية الحركات الأزوادية" والتي تضمّ حلفاء المتشدّدين في 2012. أما تنظيم "القاعدة في غرب افريقيا"، والمقصى أيضا من اتفاق الجزائر، فقد شرع هو الآخر في احتجاز الرهائن، ضمن عملية دامية جدّت في الـ 8 من الشهر الجاري بمدينة "سيفاري" وسط البلاد. وقد لاقى هذا الحادث استنكارا شديدا من قبل "تنسيقية الحركات الأزوادية"، والتي سارعت إلى إعلان تنديدها بالعملية. وبنفس اللهجة الغاضبة نددت الحكومة المركزية في باماكو والمجموعات الإنفصالية الأخرى، بالهجمات التي استهدفت، مطلع يونيو الماضي، منطقتي نارا وفاكولا جنوبي البلاد، من قبل جماعة أنصار الدين. ومع أنّ درامي لفت بشدّة إلى الخطر الذي يمكن أن تمثّله هذه الهجمات على اتفاق السلام، إلاّ أنه أشار، مع ذلك، إلى أنها "من الصعب أن تمسّ بأسسه".
ويقدّم اتفاق الجزائر للسلام حلا وسطا بين مطالب باماكو ومجموعات أزواد. وبالاضافة إلى نزع سلاح الجماعات، طرح مخططا للحكم الذاتي الجهوي، إضافة إلى إقرار المؤسسات الجهوية، وأعاد إرساء مؤسسات الدولة. ويرى مراقبون أنّ مبادرة السلام الجزائرية بدورها تحمل في باطنها ما يمكن أن يهدد بنسفها منذ البداية خاصّة أنّها لم تعمل بجدية على جمع مختلف الفرقاء من أجل حوار جاد بناء كان كفيلا على الأقل بحقن الدماء إلى حين، غير أنّ الأوضاع المحتدمة اليوم على الأرض إنما توحي بأنّ المبادرة لم تكن تؤسس، بعقلية الإقصاء التي قادت المشرفين عليها، سوى إلى حلول ظرفية لا يمكن لها أن تصل في أقصاها إلاّ إلى اتفاق جزئي مع طرف أو طرفين من أطراف النزاع، في ما يبقى القتال سيّد الموقف لدى الأطراف الأخرى التي لم تقدر على كبح جماحها ولا على استيعابها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق