دويتشه فيله: أعلنت تركيا أن التحالف الدولي بقيادة واشنطن سيشن قريبا حربا شاملة ضد "داعش" انطلاقا من أراضيها. لكن أنقرة تطالب في نفس الوقت بدعم أمريكي لسياستها إزاء الأكراد. ويضع الطلب التركي واشنطن أمام خيار جيو- سياسي صعب. لم تقم بعد بإطلاق صواريخها، إلا أنها حلقت في الجو. طائرات أمريكية دون طيار انطلقت نهاية الأسبوع المنصرم من الأراضي التركية ولأول مرة في مهمة لتحديد مواقع المقاتلين الجهاديين على الأراضي السورية المتاخمة للحدود التركية بشكل دقيق. وساعدت المعلومات المخابراتية في توجيه مقاتلاتها لقصف مواقع لتنظيم "الدولة الإسلامية" وتوجيه ضربات موجعة لها. كان للقصف الأمريكي الأخير لمواقع "داعش" في سوريا ما يبرره، فقبل أيام قتل متطرفون سنة بعض المقاتلين السوريين الذين دربتهم واشنطن. لم يتم تنفيذ العملية من قبل داعش، بل من جبهة النصرة، المؤيدة للقاعدة. لكن الحادث أظهر بشكل جلي المخاطر المحدقة بالمقاتلين السوريين المدربين من قبل الولايات المتحدة على الأراضي السورية. فمقتل أحدهم له دلالات إستراتيجية بسبب قلة عدد المقاتلين الذين يمكن لواشنطن الاعتماد عليهم في حربها ضد "داعش" في سوريا.
وكانت الولايات المتحدة قد أطلقت في أيار/مايو الماضي برنامجا تدريبيا لإعداد 4500 مقاتلا سوريا لمواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية"، إلا أن عدد الذين تم تدريبهم فعليا لم يتجاوز 60 عنصرا. ورغم أن عدد المرشحين للتدريب من بين المعارضة السورية كان كبيرا، إلا أن الولايات المتحدة صنفت الكثير منهم بأنهم "غير موثوق بهم" أو "لا يعول عليهم". وتسعى الولايات عبر هذا التنصيف الحاد تجنب وصول أسلحتها إلى أياد "غير مرغوب بها"، ويعني ذلك عدم وصول أسلحة أمريكية إلى الإرهابيين. كما رفض العديد من المعارضين العلمانيين المشاركة في البرنامج التدريبي الأمريكي بسبب قيام الجانب الأمريكي بحصر المهمة على الجهاديين فقط، دون محاربة نظام بشار الأسد. وبهذا الموقف تأخذ الولايات المتحدة الموقف الإيراني بعين الاعتبار والذي يقف إلى جانب نظام الأسد بكل صلابة.
التشابك في السياسات الداخلية والخارجية
التشابك في السياسات الداخلية والخارجية
تركيا تعرف جيدا كل هذه الأمور . ما يجعل موقفها التفاوضي مع الجانب الأمريكي سهلا. تركيا تسمح للولايات المتحدة باستخدام القواعد العسكرية في جنوب البلاد، وتأمل من خلال ذلك أن تتفهم واشنطن رغبتها الأساسية المطالبة بضرب الأكراد، وذلك ليس فقط فوق الأراضي التركية فحسب، بل أيصا في الأراضي العراقية والسورية. وفيما يخص الموقف التركي هذا لا يتعلق الأمر برغبة أنقرة في منع ظهور دولة كردية تمتد على أراضي دول مجاورة وخارج حدودها فحسب. فعلى الأمد القريب، كما يعتقد المراقبون، يسعى الرئيس التركي أدروغان إلى تحقيق هدف ملح: فبعد أن تعرض حزبه، حزب العدالة والتنمية، إلى خسارة كبيرة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران، يونيو المنصرم، يريد أن يحول حزبه مجددا إلى قوة سياسية أساسية قادر على الحكم بمفرده عبر انتخابات برلمانية مبكرة. حاليا، يعتمد حزب أردوغان على أصوات الحزب الموالي للأكراد "حزب الشعوب الديمقراطي". أردوغان يريد التخلص من هذا الحزب، فالمفاوضات بشأن تشكيل حكومة تركية جديدة أظهرت صعوبة كبيرة في التوصل إلى تفاهم.
في هذا السياق يقول المحلل السياسي التركي جنكيز جندار في مقال نشره في صحيفة "راديكال" " إن حكومة حزب العدالة والتنمية ضربت قواعد حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية لأول مرة منذ أربع سنوات، كما تصر الحكومة التركية على مواصلة النهج المعادي للأكراد". ويضيف المحلل السياسي جاندار" لا يحتاج المرء للتعمق في علم المصطلحات السياسية، لكي يفهم أن الأمر هنا يتعلق بتجريم حزب العمال الكردستاني وتهميشه بهدف الضغط عليه لمنعه من تجاوز حاجز العشرة بالمائة في الانتخابات البرلمانية المبكرة المفترضة. في هذا الاتجاه يذهب أيضا المحلل العسكري نعيم بابوراوغلو في تحليله على الموقع المتخصص بشؤون الشرق الأوسط "المونيتور"، حيث كتب يقول " يبدو أن أردوغان وبعد خسارة حزبه في الانتخابات الأخيرة، يريد أن يستغل موقعه كقائد للقوات المسلحة من أجل الفوز في الانتخابات المبكرة". وربما يتعلق الأمر بالنسبة لأردوغان بتحقيق هدف سياسي داخلي أكثر من التوجه صوب خيارات إستراتيجية، كما يقول المحلل العسكري بابوراوغلو.
موقف أمريكي حذر
ويبدو أن الجانب الأمريكي يجد نفسه فيما يخص الموقف التركي في وضع حرج. فكيف يمكن التعامل مع شريك لا يمكن الاستغناء عنه والذي يخلط مكافحة الإرهاب الدولي وتحقيق أهداف تخدم الشأن الداخلي؟. المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي أليستير بيسكي اعتبر أن الولايات المتحدة تحترم حق تركيا في الدفاع عن نفسها مضيفا " إننا نطالب حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية بنبذ الإرهاب والعودة إلى طاولة المفاوضات مع تركيا". في نفس الوقت دعا المتحدث الأمريكي طرفي النزاع إلى بذل المزيد من الجهود من أجل التوصل إلى حل سلمي للأزمة. في هذا السياق دعا أيضا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينز ستولتينبيرغ إلى ضرورة البحث عن حل سلمي للأزمة التركية ـ الكردية وأضاف " على الأمد البعيد لا يساعد العنف في حل الأزمة".
تخوفات من حدوث تطهيرعرقي
تخوفات من حدوث تطهيرعرقي
في أنقرة يتفهم السياسيون الإشارات المتحفظة من جانب الحلفاء، غير أنهم منشغلون بأمور مقلقة أخرى. فمن جهة يوافق الأتراك على المقترح الأمريكي مبدئيا والخاص بإقامة منطقة آمنة خالية من أنشطة تنظيم "الدولة الإسلامية"، لكنهم يتساءلون من جهة أخرى عمن سيسكن في تلك المناطق على الأمد البعيد. فحاليا يقطن التركمان والعرب في المنطقة التي من المفترض أن تصبح آمنة. وإذا أنضم الأكراد لهؤلاء فإن السلطات التركية تخشى أن يقوم الأكراد بتهجير السكان القدماء من المنطقة. وفي هذا السياق قال ممثل للحكومة التركية في حديث مع صحيفة "وول ستريت" الأمريكية: "إن ذلك قد يؤدي إلى موجة جديدة من التطهير العرقي". وقال: "إن ذلك أمر لا يمكن لنا القبول به". ومنذ أيام يجري الأمريكان والأتراك مفاوضات شاقة. ولا يمكن للأمر أن يكون غير ذلك في منطقة تشهد تغيير كبيرا في على حدودها، مما يجعل تلك المفاوضات أكثر تعقيدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق