العرب اللندنية: لكن ثمة بوادر إيجابية في اعتراف الأطراف الليبية بتدهور أوضاع ليبيا بعد أربع سنوات من الثورة، والتي ما لبثت أن أضافت إلى مشهدها القاتم، ظهور الحركات الجهادية وعصابات التهريب والجريمة المنظمة التي ترفض المنظور الوطني للدولة، وتبحث بكل ما أوتيت من قوة أن تجعل من عدم توافق الأطراف السياسية والصراعات القبلية في الشرق والغرب والجنوب، عناصر مغذية تصب في تعميق الأزمة وتفجير الموقف من خلال استثمارها في التمايزات القبلية والمناطقية من ناحية، ثم الدفع بالوضع في ليبيا أن تصبح ساحة تعج بالاضطرابات من ناحية أخرى. ويضع مركز "فيريسك" الأميركي، المختص في توقعات الأخطار العالمية، ليبيا على قائمة الدول الأكثر خطورة، والمرشّحة للسقوط في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط في عام 2015، ومن ثمة، يطرح مدى احتمالية نجاح انفراج في التطبيع بين حكومة طبرق الشرعية ومعسكر طرابلس، فضلا عن السيناريوهات الأكثر توقعا في ليبيا.
مسارات الصراع الداخلي
تعرّضت خارطة الصراع الليبي إلى تحولات متسارعة، سواء على مستوى الأطراف أو القضايا المتنازع عليها. ويمكن إجمالها في الصراع حول الشرعية بين معسكرين أساسيين يتمثل في الحكومة الشرعية، التي تحالفت مع الفريق خليفة حفتر ونالت دعما من قبائل العبيدات والمسامير والعواقير والقوى الفيدرالية عبر جناحها المسلح في برقة بزعامة إبراهيم الجضران، أضف إلى ذلك كتيبة طبرق الجوية. وتستند كذلك في الشرق على قوات الصاعقة في بنغازي التي يقودها ونيس بوخمادة. ثم تعتمد أيضا على قبائل الزنتان التي تتوفر على الكتائب المسلحة (الصواعق، والقعقاع، والمدني). بالإضافة إلى ذلك استطاعت أن تضم قوى وطنية وليبرالية واتجاهات قومية وملكية ونسائية بعد إصدار قانون العزل السياسي. بالمقابل يتكون معسكر طرابلس من المليشيات الإسلامية، خاصة منها تلك التي تضم "فجر ليبيا" ومليشيات "درع ليبيا"، إضافة إلى"غرفة عمليات الثوار"، علاوة على بعض المجموعات الشبابية المتحمسة في جبل نفوسة، خاصة في نالوت وغريان، ومن بعض المناطق الأمازيغية، مثل القلعة والكفرة. أما في الشرق، فنجد "مجلس شورى ثوار بنغازي"، ثم نجد أنصار الشريعة وكتائب أخرى مثل كتيبة "درع ليبيا 1" بقيادة وسام بن حميد وراف الله السحاتي و"كتائب 17 فبراير". أما على مستوى التحالفات القبلية، فنجد قائمة تتضمن مصراتة وطرابلس والزاوية وزليتن وغريان، تسعى كلها إلى دعم المؤتمر الوطني العام الذي يهيمن عليه تحالف حزب العدالة والبناء وكتلة الوفاء للشهداء والأمة والوطن السلفية.
اقتصاد الحرب السياسي
تم اختزال التفاعل بين المعسكرين في المشهد الليبي في الصراع على الشرعية السياسية والشرعية الثورية، لكن النزاع على من يملك الشرعية، يخفي صراعا اقتصاديا ضاريا. ومن يتأمّل اقتصاد الحرب الجاري في ليبيا بين الشرق والغرب، يمكن أن يفهم لماذا كانت مليشيات "فجر ليبيا" تريد طرد مليشيات "الزنتان" من المطار وتدميره، بحيث لا يكفي مبرر السيطرة النسبية على طرابلس لوحده، إذ كان الهدف الحقيقي، هو تحويل مسارات القوى الاقتصادية والتجارية بعد الثورة، وذلك لصالح قوى سياسية إسلامية ونحو مطاري مصراتة ومعتيقية في الغرب. ويلاحظ أن قضايا الصراع وتقاطعاتها، تجد أيضا مكوناتها في التنافسية الاقتصادية بين مختلف المدن الساحلية، بحيث يجمع المعسكر الإسلامي-المصراتي مثلا مصالح متعددة، بعضها يكتسي صبغة أيديولوجيا دينية تمثلها جماعات الإسلام السياسي بشقيها الإخواني والسلفي، والآخر ذو طابع اقتصادي تشكل مصراتة فيه قوة تجارية كبرى في منطقة الغرب، حيث الخلافات بينها والزنتان غنية عن التعريف في المعادلة القبلية.
كما يسعى التحالف القائم فيها انتزاع الريادة من سائر المناطق الأخرى والتحكم فيها. وهو ما يجد تفسيره في أن تحالف الإسلاميين-مصراتة يستند ماليا واقتصاديا على تمويل التجار المحليين وعلى المليشيات الإسلامية في طرابلس. وبالتالي كانت الاستفادة من تدمير مطار طرابلس، هو تحويل العمليات الاقتصادية والتجارية الكبيرة إلى مدينة مصراتة. ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن الصراع في الجبل الغربي، هو في حقيقة الأمر نقطة فاصلة في توازنات القوى في غرب ليبيا، بحيث أن من سيسيطر على الجبل الغربي في جنوبي غرب ليبيا، سيسيطر في النهاية على التجارة الحدودية مع كل من تونس والجزائر. ويضاف إلى ذلك، أن الصراع حول مثلث النفط الليبي في الإقليم الشرقي الذي يحتوي على ثلاث مصاف نفطية من أصل خمس في ليبيا، وأنابيب للنقل وموانئ التصدير (خمسة موانئ)، يجسد إحدى القضايا المفصلية المتصارع عليها. حيث تظل قضايا اقتسام السلطة بين المدن والصحراء وحقوق الأقليات وصيغ إعادة توزيع الثروة الطبيعية محل صراع ورهان متجدد احتكمت قواه المعاصرة إلى السلاح نظرا لضعف ثقافتها الديمقراطية والمدنية. وسرعان ما توزّعت المدن الليبية على الساحل سلطات عسكرية ومدنية، وما لبث السياق العام على إثر انفتاح السوق السياسي والاقتصادي أمامها، أن انفلت النقاش المؤسساتي من عقاله.
لذلك، يفهم إصرار التحالف الإسلامي-المصراتي على "المؤتمر الوطني العام" المنتهية ولايته، والطعن أمام المحكمة العليا في شرعية مجلس النواب والدفع بحل المجلس في 06 نوفمبر 2014 تحت مبرر أن قرار المؤتمر الوطني العام في مارس 2014 بإجراء انتخابات تشريعية، جاء بناء على تعديلات للإعلان الدستوري. وكان يتطلب إقراراه أكثر من الثلثين، وهو ما لم يحصل، ومن ثمة، تبرير إلغاء القانون المنظم للانتخابات، وما يترتب عنه شكلا ومضمونا من مجلس نواب وحكومة. وهو الأمر الذي اعتبره المنتظم الدولي مبررات سياسية، لأنه صدر تحت ضغط وتحت سيطرة "فجر ليبيا" على طرابلس، بحيث لا يرى المنتظم الدولي في هذا المعسكر اليوم إلا مجرّد طرف سياسي في الصراع وليس حكومة شرعية.
إجمالا، كانت مصالح مختلف المدن الليبية على الساحل وراء اصطفافها السياسي على المستوى الوطني، خاصة وأن النقاش حول الطبيعة الفدرالية للدولة الجديدة دفع إلى الإقرار بأنها مكونة من ثلاث مناطق تاريخية (طرابلس، برقة، فزان)، وهو ما تم استخدامه كذريعة لبعض الفاعلين السياسيين لوضع اليد على الثروة النفطية في خليج سرت أو مبررا لأهداف انفصالية في الصحراء، حيث كانت صحراء ليبيا مسرحا لصراعات بين قبائل عربية وقبائل تبو، ولم يكن النظام السابق يلجأ لهم إلا لتوريطهم في مغامراته المسلحة مع جيرانه ومنحهم الجنسية الليبية، لكن يتم الرجوع عنها بين الفينة والأخرى، مما أسفر عن وجود آلاف المواطنين من قبيلتي التبو والطوارق دون جنسية.
وهو الأمر الذي أدى في أغسطس 2013 إلى إعلان اللجنة الوطنية الخاصة بالجنسية عدم شرعية وضعية حوالي مليون شخص، نجم عنها رد مضاد تمثل في إعلان فزان استقلاليتها، واتخذت مجموعة من أعيان منطقة الجنوب في 27 سبتمبر 2012، مبادرة إعلان منطقة فزان إقليما فدراليا، وتم على إثره تشكيل المجلس الاجتماعي الأعلى لقبائل فزان في مدينة أوباري وانتخاب رئيس للإقليم، فيما أدت القبائل البربرية ثمنا مغايرا لمليشيات مصراتة أثناء طردهم من مدينة توارغة. وفي السادس من مارس 2012، تم الإعلان عن قيام كيان برقة، ضمن دعوة لإحياء دستور 1951 والنظام الفيدرالي، وجاء المؤتمر الثاني في أبريل من نفس العام ليضع لبنات مؤسسات الإقليم، ومنه "قوة دفاع برقة"، وهو الاسم الذي استخدمه الملك السنوسي والإعلان عن هيأة دستورية مكلفة بوضع دستور للإقليم. من أبرز السمات الغالبة على المعسكرين، التي انكشفت مؤخرا في المفاوضات حول المسودة الرابعة، كون جبهتهما الداخلية لا تعرف تماسكا قويا يمكّنهما من تدارك آثار الانقسامات السياسية والانتماءات القبلية وفرض سلطة كاملة على المناطق التابعة لنفوذهما سواء في الغرب أو في الشرق، بحيث ظهرت قوى مناوئة أخرى، إذا أخذنا بعين الاعتبار ظهور تنظيم داعش كخليط من أفراد وجماعات مختلفة على الساحة، تضاف إلى ذلك، الجماعات الجهادية في درنة وسرت وبنغازي، ودرنة وأجدابيا في الشرق.
الدور الخارجي
بات من المعروف أن التناحر الداخلي يقف وراءه اصطفاف خارجي، وأن الاصطفاف الداخلي المتنازع أصبح خارجيا وممتدا إقليميا ودوليا، بما يعني اعتماده على موقفين متباينين في تداعياته، يضم محاور غير متجانسة في الفعل ورد الفعل، تتفاعل إيجابيا أو سلبيا حسب تقاطع مصالحها: يعمل الموقف الأول على دعم الشرعية والجيش النظامي ومواجهة الإرهاب، ويمثله موقف المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المؤيد لعملية الكرامة والانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة بناء الدولة عبر احترام سيادة الشعب الليبي وخياراته المصيرية برفض حل مجلس النواب. فيما يشكل منع تهريب السلاح وتسلل الجماعات الجهادية، ومواجهة موجة صعود التيارات الإسلامية التي استغلت الفترات الانتقالية للاستبداد بالحكم وقلب موازين الجيوسياسية العربية في اتجاه يصب في صالح قوى غير عربية، القاسم المشترك بينها لأنه يشكل أهمية قصوى للأمن القومي المصري والخليجي، فضلا عن كون الجماعات الإسلامية تقوم بأنشطة تخريبية في ساحات هذه الدول الثلاث.
يمثل الموقف الثاني، كل من قطر وتركيا والسودان، التي تؤيد معسكر فجر ليبيا، ومن يقف بصفة عامة وراء حالة استقطاب وجذب للحركات الإسلامية سواء لاستغلالها كورقة للتراشق في مجالات النفوذ والنزاعات العربية–العربية، أو تلك الخاصة بأجندة تركيا التي تسعى إلى موقع قدم في العالم العربي عبر وصاية يمارسها حزب العدالة والتنمية من أجل تسويق نموذج الإسلام السياسي العثماني كبديل في العالم العربي. وذلك تمهيدا لتحويل العالم العربي إلى نظام فرعي لها على عكس وضع سابق كان فيه العالم العربي هو المركز لإقليم شرق أوسطي يتضمن إيران وتركيا. لكن هذا المحور تتخلله مواقف غير منسجمة في سياساته بسبب ما يمليه الوضع الليبي من تداعيات متباينة على خريطة التجاذبات الإقليمية والدولية.
بدأت القوى الإقليمية والدولية تدرك خطر القوة الثالثة المدمرة الصاعدة والمتمثلة في داعش وأنصار الشريعة وتنظيم "المرابطون"، وما يقترن بها من تنظيمات جهادية فرعية وخلايا نائمة، ومن ثمة، بدأت تتجه في الآونة الأخيرة لخفض سقف الصراع المسلح بين الفرقاء الليبيين على المدى المتوسط والطويل، خاصة وأن مسألة حسم الصراع أصبحت مستحيلة، ويظل القول بها مجرد تكتيك لا استراتيجية، لأن تنامي تهديد القوة الثالثة الجهادية وانفلات التطرف الإسلامي لا يتركان مجالا لأي من الطرفين، إلا محاربة طرفين في آن واحد وتعدد محاور الهجوم والدفاع وتعدد الجبهات القتالية.ىعلى المستوى الإقليمي، تلعب الجزائر دورا مبهما وغامضا في الصراع الليبي، فهي من جهة كانت مرتبكة من انطلاق الثورة الليبية، وحاولت الاقتراب من الموقف المصري بمشاركتها في لقاء يونيو 2014 الذي جمع كل من تونس وتشاد ومصر لبحث أمن الحدود، حيث أوكلت لجنة التنسيق مهام الإشراف على اللجنة السياسية إلى مصر، وكلفت الجزائر باللجنة الأمنية للحيلولة دون الأخطار الجاثمة على حدود هذه الدول. لكن الجزائر سعت إلى طرح نفسها كبديل يتواصل مع جميع الفرقاء، سواء في معسكر الحكومة الشرعية أو معسكر فجر ليبيا، بحثا عن لعب دور الوساطة بين مجموعة من الشخصيات الليبية، بالرغم من موقفها السابق ضد الثورة الليبية، فضلا عن سعيها الحثيث لإقناع عدد من الشخصيات الإسلامية الليبية المعروفة والقريبة من الفصائل الإسلامية. لكن معضلة المبادرة الجزائرية كشفت عن عجزها في قطع أي خطوط اتصال بين الحركات الجهادية الليبية والجزائرية، حيث عانت من عملية الهجوم على مصفاة عين أميناس بسلاح وتأمين لوجستي ليبي، فيما لم يفهم النظام الجزائري أن طبيعة التهديدات الآتية من الغرب الليبي كلها نابعة من حركات إسلامية جهادية، سبق للجزائر أن عانت الويلات داخليا منها سابقا.
إجمالا، تتناقض مصالح الدول الإقليمية مع بعضها البعض، لذلك ركزت المسودة الرابعة من الاتفاق في المواد رقم 60 و61 على التعاون مع المنتظم الدولي لوضع مقتضيات خطة شاملة للدعم الدولي لمؤسسات الدولة الليبية، ولكي تضع حدا للتدخلات الخارجية غير المقننة، بحيث نصت المادة 61 أن "تتولى حكومة الوفاق الوطني بالتعاون مع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وجامعة الدول العربية والمنظمات الإقليمية، تنظيم مؤتمر دولي في أقرب وقت ممكن لتعبئة وتنسيق الدعم الدولي لليبيا على جميع المستويات المتعلقة ببناء القدرات والحكامة، إضافة إلى محاربة الإرهاب، آخذين بعين الاعتبار المخرجات السابقة التي تضمنها مؤتمرا باريس وروما لدعم ليبيا"، وهو ما لا يعني أنها مؤشرات استباقية تبتغي ممارسة الوصاية على الجسم السياسي الليبي ومؤسساته الوليدة، بل تذهب هذه المواد سياسيا إلى وضع حد للتدخلات الخارجية المباشرة التي لا تحترم القانون الدولي وقرارات المنتظم الدولي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق