* أولا، باعتبار أنّ أعضاء المؤتمر الوطني العام "المنتهية ولايته" هم ممثلون مباشرون للجماعات الجهادية المتشدّدة أو هم مرتهنون لهذه المجموعات، فإنّ الجانب السياسي لا يعني لهم كثيرا. حيث أنّ بعض هذه الجماعات والتي يمكن أن تتعامل مع القضايا وفق ما تقتضيه من عقلية سياسية، لا تكاد تفرّق في الأصل بين لغتي السياسة والسّلاح. والحال أنّ السياسة في ليبيا اليوم تمّت عسكرتها. كما أنّ عدم وجود علامات وتقاليد للحياة السياسية في السابق لم يكن من العوامل المساعدة. ولذلك فإنه حتى في حال التوصل إلى اتفاق، فمن غير المرجح أن يتمّ الالتزام به من قبل هذه الجماعات التي تتبنى العنف متى أحست بأن مصالحها الضيقة مهددة. وتُعارض جماعات مثل أنصار الشريعة، ومجلس الشورى (الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة سابقا) وبعض قادة كتائب مصراتة الاتفاق. وقد ربط الإخوان المسلمون النصر في ليبيا بعودتهم في مصر، وهو ما من شأنه أن يصعب من مهمة ليون.
* ثانيا، بينما يكافح ليون للحصول على توقيع المؤتمر الوطني العام على المسوّدة الأولية، يتوسع داعش في الشمال. ولا ينبغي حصر تأثير الوجود المتزايد لهذا التنظيم المتشدد فقط في أعداد المقاتلين ونوعية الأسلحة، بل إنّ هنالك تأثيرا سياسيا لهذا التوسع، يتجلى من خلال دفع جماعات جهادية أخرى في الغرب الليبي إلى اتخاذ مواقف أكثر خطورة، حيث أنها أضحت تتنافس لكسب مزيد من الأتباع والسيطرة على مناطق النفوذ، وهذا التوسع الجهادي ينبئ حتما بتدمير أية عملية سياسية محتملة.
* ثالثا، إذا تم التوصل إلى اتفاق، رغم كلّ المعرقلات، فإنّ الجهاديين الأكثر تطرفا في بنغازي وطرابلس أو مصراتة لن يقبلوا حتما به حتما، كما أنه من الصّعب رؤية كيف سيقُوم داعش أو غيره بأمر الخلايا المتفرقة بالالتزام بأيّ وقف لإطلاق النار.
فرضية الحل العسكري
في الوقت الذي تجري فيه المفاوضات برعاية ليون، يكثف داعش من تحركاته في ليبيا ويتطلع باستمرار إلى الوصول إلى أوروبا، رغم أنه في الوقت الحاضر يقصر استفادته من الجبهة الأوروبية على استقطاب المقاتلين الجدد وتركيز الخلايا النائمة. وترى دراسة مجموعة الشرق الاستشارية أنه من غير المحتمل أن ينظر داعش إلى أوروبا على أنها ساحة معركة في المدى المنظور، لأنّ ساحة المعركة بالنسبة إليه الآن هي شمال أفريقيا وبلاد الشام. ولذلك فإن الضغط الحقيقي على ليون ليس متأتيا من الجانب الأوروبي أو الغربي عموما بل يتعلق بأن جيران ليبيا لا يمكنهم الانتظار لفترة أطول.
وتتابع كل من مصر والجزائر وتونس المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة ببالغ القلق على أمن أراضيها. وتمارس كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة قدرا كبيرا من الضغط على القاهرة للحصول على موافقة الرئيس السيسي بخصوص منح فرصة للمفاوضات. وخلال فترة الانتظار، عزّز داعش تواجده وكثف من عملياته في ليبيا، عبر ذبح الأقباط المصريين، وتوسيع تحالفاته عبر استقبال مئات المقاتلين الأجانب مستغلا تدهور الأوضاع العامة. وتبني تونس الآن سياجا على حدودها مع ليبيا، وعلى الرغم من أنّ القيمة الأمنية لهذا السياج مشكوك فيها إلاّ أنّ تونس لن تتراجع عن السعي بكلّ السبل لتأمين حدودها وحفظ أمنها خاصّة أنّ لها سببا وجيها لتفقد صبرها نظرا لعدد الجهاديين التونسيين الذين يقاتلون في سوريا والعراق وليبيا، والذي تقدره الأمم المتحدة بحوالي 5500 شخص، ولتعرضها لهجمات إرهابية، حتى قبل عودة هؤلاء المقاتلين الذين يشكلون خطرا لا محالة على التجربة الديمقراطية التي بدأت تترسخ في تونس.
وتتفاوض الولايات المتحدة مع الحكومات التونسية (وكذلك الحكومتين الجزائرية والمغربية) حول مشروع إقامة قاعدة لطائرات من دون طيار على أراضيها لمراقبة تحركات تنظيم داعش في ليبيا. ومع ذلك فإنّ أفضل حل، يظل في نظر المحللين، هو دعم جهود الشركاء المحليّين، مثل الجنرال خليفة حفتر الذي يقود الجيش الوطني الليبي لمحاربة الإرهابيين. وبناء عليه، تلفت الدراسة إلى أنّ "الخرافة" القائلة بأنّه “لا يوجد حل عسكري لهذه الأزمة” هي مغلوطة وناتجة عن عدم إلمام بحيثيات الأزمة، ففي ظلّ تعطّل الحل السياسي نتيجة لتعنّت الشق الإخواني وفي ظلّ التمدد الجهادي المطّرد، تبدو إمكانية اللجوء إلى الحل العسكري من أجل استباق هذا الخطر معقولة جدا. إذ يمكن استخدامه عند الحاجة كتكتيك للمماطلة، ويمكن أن تنتهي أية مواجهة بصفقة سياسية تعتمد على توازن القوى التي سبق أن وقعت على الاتفاق السياسي. ومن أجل التوصل إلى اتفاق يقلل من تأثير الجهاديين العنيفين، يجب أن يتحول ميزان القوى على الأرض لصالح القوى المناهضة للجهاديين، وهو ما يبرر ضرورة دعم الجيش الوطني الليبي"القوات الموالية للحكومة المؤقتة" .
أهمية عامل الوقت
في هذه اللحظة من مسار الأزمة، لا تبدو محاولة ليون مفيدة في تجاوز المعضلة الليبية، فمن غير المعقول أن يتم التركيز على انتهاء الأزمة بشكل مطلق إلا عبر صفقة سياسية في هذا الزمن المفتوح الذي يمكن أن يطول كثيرا، وإهمال الضغط العسكري. وينبغي، وفق دراسة مجموعة الشرق الاستشارية، أن تقدم القوى الدولية مساعدات لوجستية جدية للجيش الوطني "القوات الموالية للحكومة المؤقتة" بقيادة الجنرال خليفة حفتر، وعلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يكفوا عن خيار التمهل و"عدم اللجوء إلى الحل العسكري"، لأن هذا الحل هو الأقرب لمجابهة تمدد داعش وإنهاء الفوضى في سرت. وعند بلوغ نقطة معينة من الصراع على الأرض، عندها يمكن اللجوء إلى الاتفاق السياسي وفقا لميزان القوى الجديد على الأرض وتبين درجة مرونة كلا الجانبين. ولأنّ عامل الوقت يعدّ أمرا بالغ الأهمية في السياق الليبي الحالي، ولأنّ ليون لا يمكنه أن يواصل جهوده إلى الأبد، فإنّ التدخل العسكري أضحى ضرورة عاجلة، خاصّة أنّ غالبية الليبيين أضحوا ينظرون إلى مسار العملية السياسية بشيء من الريبة ويعتقدون أنه يتم الاعتماد على بلادهم عمدا لتغذية داعش.
ويعتبر الرأي العام الأوروبي، في هذا السياق،الأقدر على الضغط على حكومات بلدانه من أجل اتخاذ إجراءات ضد التهديد الذي يطرق أبوابهم. وينبغي أن يطلب من الناتو الإجابة على سؤال واضح مفاده، لماذا لم يتم اعتماد نفس الشعار "لا ينبغي اعتماد الحل عسكري لهذه الأزمة" عندما تمت الإطاحة بالقذافي؟ وتخلص دراسة مجموعة الشرق الاستشارية إلى أنّ قوات الجيش الوطني الليبي"القوات الموالية للحكومة المؤقتة" بقيادة الجنرال خليفة حفتر في طبرق هي أشبه بالمعارضة السورية المعتدلة في عام 2013، ولكن في سياق مختلف. وتمثل هذه القوات الحكومة الشرعية والمعترف بها دوليا، ولذلك يجب مساعدتها للسيطرة على جزء من بنغازي التي لا تخضع بعد لسيطرتها الكاملة. كما يجب أن تقوم القوى الإقليمية بتقديم كل المساعدات اللازمة لها. وينبغي أن يتم تطوير عمل هذا الجيش بالتنسيق مع القوى الإقليمية وحلف شمال الأطلسي، في صورة ما استفاق من سباته. ومن دون ذلك فإنّ البحث عن حل سياسي منشود دون تغيير موازين القوى على الأرض هو بمثابة مزيد من إضاعة الوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق