العرب اللندنية: ترافق الاتفاق النووي الذي توصلت إليه، أمس الثلاثاء، القوى الدولية مع إيران بالعديد من الشكوك والشبهات التي تتعلق في جانب من جوانبها بفرضية عدم سماح إيران لمفتشي وكالة الطاقة الذرية بالإطلاع الكامل على حيثيات برنامجها النووي بجميع تفاصيله، خاصة ما يتعلق منها بالجانب العسكري، رغم تأكيد القوى الدولية أنّ خطوة إيرانية في هذا الاتجاه من شأنها أن تعيد تفعيل العقوبات. وتتدعم هذه المخاوف انطلاقا من التصريحات التي صدرت عن المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي التي رافقت الأشهر الأخيرة من المفاوضات، والتي طالما عبّر من خلالها صراحة عن رفضه لأن تفتح المنشآت العسكرية الإيرانية أمام المفتشين الدوليين. هذه التصريحات، ولئن يبدو ظاهريا أنّ خامنئي تخلى عنها مع إتمام الاتفاق النووي، إلاّ أنّها تظلّ في نظر العديد من المراقبين والمحللين التربة الحاضنة للتوجهات الإيرانية عموما والأساس الذي تقوم عليه السياسة الإيرانية وجل الخطوات التي يمكن أن تنتهجها طهران في المستقبل في سبيل إخفاء ما يجب إخفاؤه عن المفتشين، ممّا يجعل من وسم سلوكها المحتمل بسوء النية منذ الآن ليس تجنيا عليها. ويتدعّم هذا القلق وهذه الشكوك بمخاوف عديدة من إمكانية استغلال إيران للأموال التي ستتدفق عليها نتيجة تخفيف العقوبات المُسلطة عليها، لبث البلبلة وزعزعة الاستقرار في المنطقة بالاعتماد على أذرعها وميليشياتها الطائفية من أجل مدّ نفوذها. حيث يقول منتقدو الاتفاق، ومنهم معظم دول الخليج العربية وإسرائيل إنّ إيران لا تخفي إصرارها على توسيع نطاق نفوذها بالشرق الأوسط. كما لا يحظى الاتفاق بإجماع أميركي كامل، بل تواجهه انتقادات حادة من داخل مجلس النواب نفسه، ويجابه بأصوات رافضة ترى فيه إطلاقا ليد إيران التي مازالت تشكل في نظر العديد من الأميركيين الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم.
رفض أميركي داخلي
سارعت الدبلوماسية الأميركية بـ”التهليل” للاتفاق النووي مع إيران، الذي أصرّ باراك أوباما على إتمامه بدوافع ذاتية، ربما حفظا لماء الوجه، مع اقتراب نهاية فترته الرئاسية الثانية والأخيرة، في ظل إخفاقاته الدبلوماسية الكثيرة التي مني بها في الشرق الأوسط على مدى السنوات الماضية، مُروّجة له من زاوية أنه يقطع الطريق على إيران ويحول دون تمكّنها من امتلاك سلاح نووي. حيث صرّحت مستشارة الأمن القومي الأميركي، سوزان رايس، أمس الثلاثاء، بأن الاتفاق النووي الذي أبرم بين إيران والقوى الدولية الست سيمنع طهران من الحصول على سلاح نووي، ولن يخفف الضغط عليها في ما يتعلق بدعمها للإرهاب وغيرها من أنشطة “زعزعة الاستقرار”. وقالت في تغريدة على تويتر “هذا اتفاق جيد للغاية، إنه يقطع على إيران كل الطرق لامتلاك سلاح نووي ويضمن عمليات التفتيش والشفافية اللازمة”. هذا الموقف المحسوب على إدارة الرئيس باراك أوباما، والذي لقي بعض الدعم من بعض حلفاء واشنطن وترحيبا من قبل حلفاء طهران، لم يكن محل إجماع أميركي داخلي، حيث يرى فيه العديد من السياسيين الأميركيين خطرا محدقا يمكن أن يفضي إلى تداعيات كارثية على أمن الشرق الأوسط وعلى مصالح أميركا وحلفائها في المنطقة خاصة دول الخليج العربي وإسرائيل.
السناتور، لينزي جراهام، وهو أحد أصحاب هذا الموقف الرافض والذي يسعى إلى خوض انتخابات الرئاسة الأميركية عن الحزب الجمهوري، قال “إنّ هذا الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه مع إيران هو بمثابة حكم محتمل بالإعدام على إسرائيل، كما أنه سيجعل كل شيء أسوأ”، واصفا إيّاه بالاتّفاق الـ”مريع”. وأضاف “هذه هي أخطر خطوة شهدتها في تاريخ متابعتي للشرق الأوسط وأكثرها انعداما للمسؤولية، إنّ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ووزير خارجيته جون كيري يتسمان بشكل عام بالسذاجة في ما يتعلق بالشرق الأوسط بشكل خطير. وفي رأيي فإنّ أيّ سناتور يصوت لصالح هذا فإنه يصوت لصالح سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط، وسيمنح التصويت أكبر دولة راعية للإرهاب 18 مليار دولار”. بدوره ندد رئيس مجلس النواب الأميركي، جون باينر، بالاتفاق، معتبرا أنه سيطلق سباقا على التسلح النووي في العالم. وقال باينر في بيان إنّ هذا الاتفاق “سيقدم لإيران المليارات بتخفيف العقوبات مع إعطائها الوقت والمجال لبلوغ عتبة القدرة على إنتاج قنبلة نووية بدون خداع”. وأضاف “بدلا من وقف انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، هذا الاتفاق سيطلق على الأرجح سباقا على التسلح النووي في العالم”. هذه المواقف الرافضة التي عبر عنها العديد من الساسة الأميركيين، تعبّر بالفعل عن مخاوف حقيقية تراود حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط الذين لطالما نبهوا إلى خطر المشروع الإيراني التوسعي على أمن المنطقة واستقرارها خاصة في سوريا واليمن والعراق.
مخاوف واقعية ومشروعة
بينما يهدف الاتفاق النووي الأخير إلى ضمان عدم حصول طهران على الأسلحة النووية، يحذر المحللون من إمكانية أن يؤدي إلى زيادة تأزيم الأوضاع في الشرق الأوسط من خلال تأجيج المخاوف السعودية والخليجية عموما، خاصة في ما يتعلق بمزيد التدخل في الحرب الدائرة في سوريا أو تأجيج الأوضاع في اليمن أو المُضي في التمدد وبسط السيطرة على الأراضي المحررة من سطوة داعش في العراق أو إشعال مزيد من المعارك الإقليمية بالوكالة مع المملكة العربية السعودية. ويدور السؤال المحوري القائم بعد هذا الاتفاق حول ما إذا كان المعتدلون في إيران سيتجهون إلى إنفاق الأموال التي سترد إلى الخزانة الإيرانية بعد إلغاء العقوبات على إنعاش اقتصادهم الذي يعاني من المتاعب، أم أنّ معسكر التشدد سيبرز عضلاته ويتجه إلى تدعيم مصالح إيران في الخارج. ويأتي هذا الاتفاق في الوقت الذي يمر فيه نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وهو الشريك الرئيسي لإيران لأكثر من ثلاثة عقود، بأضعف حالاته، فجيشه أصبح يعاني من الإرهاق والإجهاد، وأخذ يتراجع خاسرا الأرض أمام كل من تنظيم “الدولة الإسلامية” وفصائل المعارضة المسلحة، ليطرح معه فرضية أن تستغل إيران هذا الاتفاق والعائدات التي ستُحصّلها بمقتضى رفع العقوبات لزيادة الدعم لنظام بشار من أجل إنقاذه حفاظا على نفوذها، وهو ما يرفع من وتير المخاوف الخليجية التي ترى في التمدد الإيراني في المنطقة أكبر خطر وجودي يتهددها.
ويقول توماس جونو، وهو أستاذ مشارك بجامعة أوتاوا ومحلل سابق لدى الحكومة الكندية في شؤون الشرق الأوسط “إنّ إيران لديها دولة حليفة واحدة في العالم، هي سوريا، وخسارتها تمثل ضربة قاصمة لها، وبالتالي فهي على استعداد لفعل الكثير للحفاظ على استمرارية نظام الأسد، وبالتالي الحفاظ على مصالحها”. وتعتبر المعونات الإيرانية لسوريا، حليفتها المعرضة للخطر، كبيرة، لكن وإلى حدّ الآن مازالت فرضية توجه الإيرانيين إلى مواصلة دعم النظام السوري غير ثابتة، حيث يرى مراقبون أنّ الأمور تغيرت على الأرض خاصة في الأشهر الأخيرة، بالإضافة إلى أنّ إيران ستكون تحت رقابة دولية مشددة تهددها بعودة العقوبات متى أخلت بالالتزامات التي ينص عليها الاتفاق النووي. ولذلك يخلص المراقبون إلى أنّ ردّ فعل المملكة العربية السعودية إزاء الاتفاق سيساعد على تشكيل خطوات إيران خلال الأشهر المقبلة سواء في سوريا أو في مناطق التوتر الأخرى.
حيث أنه من الممكن أن تؤدي زيادة المساندة من جانب السعودية للمعارضة السورية التي تقاتل نظام الأسد إلى تقوية موقف المتشددين الإيرانيين الذين يريدون استخدام مزيد من الموارد الممكنة لمواجهة النفوذ السعودي. خاصّة أنّه منذ تولي العاهل السعودي الملك سلمان الحكم في يناير الماضي تزايدت المشاركة السعودية في الأوضاع في سوريا، وحققت المعارضة مكاسب مهمة بفضل مزيد من المعونات السعودية بعد أن كانت هذه القوات قد فقدت مواقعها نهاية العام الماضي. وعلى الرغم من هذه الأهمية التي تكتسيها سوريا بالنسبة لإيران إلاّ أنها تحتل مرتبة ثانية من حيث الأولويات، فالمرتبة الأولى يحتلها العراق، جارتها المتاخمة والتي تقودها حكومة شيعية، تسعى إيران إلى تأمينها وتأبيد سلطتها. وفي هذا الصدد يقول أمير كامل وهو محاضر بكلية كينج بلندن “إنّ إيران أكثر نشاطا في العراق مقارنة بسوريا، في ما يتعلق بالمعونة والتدريب والمعدات وأشكال المساندة الأخرى”. لكن وبغض النظر عن أولويات إيران في العراق وسوريا ومدى حدة هذه الأخطار الواقعية التي تشكلها إيران من قبل، والتي من المحتمل أن تزداد حدّة بعد الاتفاق النووي، يظلّ مصدر القلق الرئيسي بالنسبة للسعودية متعلقا بالتهديد الحوثي المدعوم من إيران في اليمن. ونظرا إلى مشروعية هذه المخاوف السعودية، والخليجية عموما، يحتمل محللون أن تقرر السعودية أيضا تطوير برنامج نووي خاص بها، بسبب قلقها من أن من اتفاق فيينا لن ينجح في الحد من طموح إيران النووي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق