دوافع الانقسام
تكبّدت جماعة الإخوان المسلمين، بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بحكمها سنة 2013، خسائر كبيرة خلال مواجهاتها مع الدولة، فإضافة إلى الاشتباكات الأمنية في الشوارع والميادين، والتي أسفرت عن آلاف القتلى والاعتقالات، جمّدت الحكومة المؤقتة أصول 1055 جمعية خيرية دينية في ديسمبر 2013، متّهمة إياها بالانتماء إلى جماعة الإخوان أو بكونها داعمة لها. وأضعفت هذه الخطوة الأنشطة الاجتماعية والدينية للجماعة وأغلقت أمامها أبواب التمويلات المشبوهة. كما أعلنت الحكومة جماعة الإخوان منظمة إرهابية في الشهر نفسه. وبعد ذلك حلّت المحكمة الإدارية العليا حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وصادرت أصول الحزب في أغسطس 2014. ووجّه تصاعد المواجهة الأمنية واعتقال قادة من الإخوان ضربة قوية للجماعة، التي كان وضعها غير مستقرّ لأشهر عدّة، قبل أن تعود بسياسة وخطة عمل جديدتَين، فعلى المستوى التنظيمي، بدأت جماعة الإخوان بوضع هياكل جديدة للتكيّف مع التغييرات الحاصلة على الأرض، مثل حاجتها إلى العمل السري وزيادة المواجهات بين أعضائها وقوات الأمن.
وأجرت بعد ذلك انتخابات داخلية في فبراير 2014، وشكّلت لجنة لإدارة الأزمة. وأسفرت نتيجة الانتخابات عن بقاء محمد بديع مرشدا عامّا للجماعة، لكن تم تعيين رئيس لإدارة لجنة الأزمة، كما تم تعيين أمين عام للإشراف على شؤون الجماعة في مصر، وجرى تشكيل مكتب إداري لإدارة شؤون الإخوان المسلمين في الخارج برئاسة أحمد عبدالرحمن. كما قامت بترقية العديد من قادتها الشباب لقيادة الأنشطة على الأرض. وأدّت هذه التغييرات إلى استبدال أكثر من 65 في المئة من القيادة السابقة للجماعة. وقدّر أحمد عبدالرحمن أنّ الشباب استحوذوا على 90 في المئة من نسبة الـ 65 في المئة المذكورة. وعلى المستوى الحركي، اعتمدت القيادة الجديدة ما يُسمّى نهج "السلمية المبدعة الموجعة"، الذي يجمع بين استمرار الأنشطة “السلمية” في الشارع وبين العنف المحدود المستخدم في عمليات تهدف إلى استنزاف قوة النظام السياسي، من خلال تنفيذ عمليات تتّسم بممارسة الثأر الموجّه وتجنّب العنف العشوائي.
وفي حين التزم عدد من أعضاء الجماعة نسبيا بهذا النهج الجديد، اعتقد البعض الآخر أنّ الخيار السلمي لن يحقق هدف الجماعة المتمثّل في إسقاط النظام السياسي الحالي، أو على الأقل الضّغط عليه لتقديم تنازلات سياسية في ظل الحملة الأمنية التي يقوم بها. ونتيجة لذلك، بدأ بعض الأعضاء بتنفيذ أعمال عنف فردية محدودة. ولأنّ القيادة فشلت في منع هذه الأعمال الفردية، حاولت بعد ذلك تنظيم تلك العمليات بهدف زعزعة النظام. وعلى الرغم من أنّ القيادة الجديدة تزعم أنها ترفض السماح لأعضائها باستخدام العنف عشوائيا ضدّ قوات الجيش والشرطة، إلا أنها غظّت الطرف عن استخدام العنف الانتقامي ووافقت في كثير من الحالات على تلك الممارسات. وبدا أن العنف المحدود يمثّل استراتيجية مناسبة للقيادة الجديدة، فهو قد يساعد في الحفاظ على التماسك التنظيمي ويمنع الأعضاء الشباب من أن يصبحوا جزءا من المنظمات الجهادية الأصولية، في ضوء تزايد غضبهم ورفضهم اعتماد الوسائل السلمية. كما يمكن أن يساعد ذلك في الضغط على النظام السياسي لتغيير ميزان القوى وتمهيد الطريق نحو التوصّل إلى حلّ سياسي.
ويبدو من الثابت في سلوكات الجماعة وعناصرها منذ مدّة أنها متضاربة ولا تنطلق من نفس القراءات والمواقف، حيث أنّ غالبية أعضاء جماعة الإخوان، خاصة الحرس القديم، لا يشاطرون القيادة الجديدة رؤيتها، مما دفع بعض الشخصيات من القيادة القديمة إلى السعي لفرض سيطرتهم مجدّدا بعد أن تبيّن لهم أنّ التهوّر يقود خطوات القيادة الجديدة. وعلى الرغم من محاولة احتواء الأزمة داخل الجماعة لأشهر عدّة، إلاّ أنها ظهرت إلى العلن في مايو 2015 في أعقاب مقال كتبه أحد قادة الحرس القديم، محمود غزلان، لخّص فيه ثوابت الجماعة، ودعا إلى الالتزام بها. وشدد غزلان بالقول إنّ "من آمن بدعوة الإخوان فلا بد أن يلتزم بثوابت الإسلام العامة، وأن يزيد على ذلك الالتزام بثوابت الإخوان ومنها ضرورة العمل الجماعي وانتهاج السلمية ونبذ العنف"، وفق تعبيره. محمود حسين، الأمين العام السابق للجماعة، صرّح بدوره بالتزامن مع مقال غزلان أنّ "الجماعة تعمل بأجهزتها ومؤسساتها وفقا للوائحها وبأعضاء مكتب الإرشاد، ودعمت عملها بعدد من المعاونين وفقا لهذه اللوائح ولقرارات مؤسساتها". وقد أثار مقال غزلان وتصريح حسين ردود أفعال غاضبة من الشباب الذين يقودون الصراع على الأرض. فقد رأوا في المقال خروجا عن "النهج الثوري" الذي اعتمدته القيادة الجديدة، ورأوا في كلمات غزلان وحسين محاولات من جانب القيادة القديمة -التي اعتبروها مسؤولة إلى حدّ كبير عمّا أصاب الجماعة خلال المرحلة الانتقالية- لفرض رؤيتها على الشباب.
جوهر الصراع
رأى البعض أن ردّ القيادة القديمة يمكن أن يلخَّص على أنه خلاف حول استخدام العنف، غير أن الصراع أوسع من أن يكون مجرّد خلاف حول الالتزام بالوسائل السلمية أو استخدام العنف ضدّ النظام. فهو يتعلّق بقواعد إدارة الجماعة وعمليات اتّخاذ القرارات الداخلية، والعلاقة بين القيادة والقاعدة الشعبية. ويرفض الحرس القديم هامش المناورة الذي مُنح إلى قاعدة الإخوان الأكثر "ثورية"، وقدرتها على تحديد أولوياتها على الأرض. ويرى الجيل القديم في ذلك تهديدا لبقاء الجماعة كيانا متماسكا، ويشعر بالحاجة. بينما تعتقد القيادة الجديدة أنّ الأحداث تجاوزت رؤية الحرس القديم، وأن ميزان القوى بين القيادة والقاعدة قد تغيّر. ونتيجة لذلك، يؤمن القادة الجدد بضرورة أن تؤخذ أولويات القاعدة بعين الاعتبار. ويرَوْن أن الهدف ينبغي أن يكون ضمان استمرارية الحركة "الثورية" على الأرض. وفي حين أن البعض منهم قد يتّفق مع مخاوف القيادة القديمة، لا بل يشاركها فيها، يعتقد القادة الجدد أن الخطر يأتي بتكلفة مقبولة. الثابت، أنّ جوهر الصراع يتعلق في أساس من أسسه بأنّ القيادة القديمة لديها حسابات أخرى تتجاوز الوضع الداخلي في مصر. فالحرس القديم يدرك أن خيارات القاعدة على الأرض لا تتعلّق بالوضع المصري فحسب، وأنه ستكون لها آثار كبيرة على فروع الجماعة في بلدان أخرى. وبالتالي من شأن اللجوء إلى مزيد من العنف أن يضرّ بالجماعة وبخطابها "السلمي" الذي تروج له وأن يفتضح أمرها خارج مصر. ويبدو أن هذا البُعد غائب عن أولويّات القيادة الجديدة، التي يملي الوضع الداخلي في مصر في المقام الأول تحركاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق