لكن، هذه الضربات لم تقنع المشكّكين في النوايا التركية وتورّطها في تسهيل مرور الامدادات لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، بأن المقصود هم داعش؛ فكل المؤشرات تؤكّد أن القصد من تغيير الموقف التركي هو ضرب معاقل القوات الكردية؛ وإلا لماذا لم تستجب تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، من قبل للطلب الدولي للمساهمة في الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر، منذ حوالي سنة ونصف، على جزء هام من الأراضي في العراق وسوريا. ومنطقيا، فمن خلال هذا التواجد هو يهدّد حدود تركيا وأمنها العام. ولماذا استفاق الآن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على حقيقة أن التنظيم يمثل تهديدا لتركيا والمنطقة وأن الضربات العسكرية ضده شمالي سوريا خطوة أولى لحماية أمن البلد.
المسؤولون الأتراك برّروا تغيير موقفهم من خلال العمل الإرهابي الذي استهدف، في 20 يوليو بلدة سروج التركية، وتبنّاه تنظيم الدولة الإسلامية؛ لكن المشكّكين يؤكّدون أن هذا التغيير في الموقف التركي وفي هذا التوقيت بالذات يضع عملية داعش محلّ ريبة، ويذهب بعضهم إلى زعم أن هناك مخطّطا وضع بالاتفاق بين داعش والحكومة التركية التي سبق ونجت في التفاوض معه في الخريف الماضي من أجل إطلاق سراح 49 رهينة تركية احتجزهم التنظيم في الموصل كان من بينهم القنصل العام نفسه. وفي هذا السياق، نجد إسراء أوزيوريك، رئيسة الدراسات التركية المعاصرة في كلية لندن للاقتصاد، في حوار مع شبكة “سي أن أن” تقول “عدد كبير من أعضاء داعش أتراك، وقد يكون لهم دعم ما في وطنهم تركيا. وداعش تقاتل نظام الأسد، في حين أن الحكومة التركية تقول إنها تعارض الإرهاب بكل أشكاله، إلا أنها تمسكت بالقول المأثور وجعلت عدوّ عدوّها صديقا”. وهذا العدوّ، ليس فقط نظام بشار الأسد، بل هو الأكراد، الذين كانوا، منذ سقوط الدولة العثمانية إلى اليوم، العدوّ الأخطر والأول للأتراك.
حرب ضد داعش أم الأكراد
وما يلفت النظر في التصعيد التركي المفاجئ هو وضع المسؤولين الأتراك، ما وصفوهم بالمتشددين الأكراد واليساريين في ذات الخانة مع تنظيم داعش، الذي تضعه أغلب دول العالم على قائمة الإرهاب، وقد تسببت تقارير تركية محلية تحدثت عن استقبال مستشفيات تركية لعناصر تنتمي للتنظيم من أجل العلاج من إصابات المعارك، في تصاعد الانتقاد الإقليمي والدولي للتردد التركي حيال ضرب داعش. وفي سياق حديثه عن التدخل العسكري، قال رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، إن أنقرة "لا يمكن أن تقف على الحياد، في وقت يستهدف فيه الأكراد واليساريون وتنظيم الدولة تركيا". وبالفعل، لم تكد أنقرة تدخل جبهة الحرب على تنظيم داعش، حتى حوّلت اهتمامها لضرب حزب العمال الكردستاني في العراق، الذي يعد جناحه السوري، وحدات حماية الشعب، حليفا رئيسيا للولايات المتحدة في مواجهة داعش. بل إن الغارات التي نفّذها سلاح الجو التركي استهدفت بالتحديد مواقع في شمال سوريا يتقاسم السيطرة عليها تنظيم داعش وحزب الاتحاد الكردستاني.
ولدى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا علاقات وطيدة بحزب العمال الكردستاني. ويسيطر الأكراد على ثلاثة قطاعات معزولة وهي عفرين في شمال غرب سوريا وكوباني في شمال الوسط والجزيرة في شمال شرق البلاد. ووسع الحزب الكردي من مناطق نفوذه لتشمل 60 ميلا من الأراضي الواقعة تحت سيطرة داعش بين قطاعي الجزيرة وكوباني. وبحسب الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى سونر كاغبتاي، فإن أنقرة "تخشى من أن يقرر الحزب الربط بين القطاعات الثلاثة من خلال التحرك أكثر نحو الغرب والاستيلاء على أراض بين منطقتي أعزاز وجرابلس" التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية؛ لذلك تريد تركيا استباق تنفيذ الأكراد طوقا محتملا على حدودها. وبناء عليه، يقول الخبراء إنه سواء جاء هجوم داعش بالاتفاق مع جماعة أردوغان لتنفيذ الهجوم الذي سيبرر تراجع أنقرة عن موقفها أم لا فإن الغاية نفسها في كلتا الحالتين وهي نسف عملية السلام مع الأكراد، في خطوة تبدو طبيعية ومتوقّعة إذا ما وضعت ضمن السياق التاريخي للعلاقة بين تركيا والأكراد.
تطور العلاقة بين الأكراد والأتراك
تعتبر المسألة الكردية في تركيا من أخطر المشكلات وأكثرها تعقيدا في تاريخ الدولة التركية الحديثة، التي مارست ضدّهم سياسة إقصائية وجرّدتهم من المزايا التي تمتّعوا بها في عهد العثمانيين؛ حيث كان للأكراد، الذين يعيش أغلبهم في الجنوب الشرقي للأناضول بالقرب من الحدود السورية والعراقية، نوع من الحكم الذاتي. لكن ذلك لم يخل من بعض التوتّرات بين الأكراد والأستانة. تطوّرت هذه التوتّرات مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وقيام الدولة التركية الحديثة على الأيديولوجيا الكمالية، التي سعت إلى بناء دولة قومية علمانية ليس فيها مكان للدين أو التنوع الإثني. وكانت النخبة الكمالية تنظر إلى الجماعات الدينية والأقليات بما في ذلك الأكراد على أنهم غير موالين، رغم أنهم وقفوا في صفّ كمال أتاتورك ضدّ قوات التحالف خلال الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بهزيمة الإمبراطورية العثمانية وتقسيم المنطقة. بمجرّد أن تحوّلت تركيا إلى جمهورية، انقلب أتاتورك على الأكراد، ورفض الاعتراف بمعاهدة "سيفر" (عام 1920) والتي ينص بعض بنودها على حصول الأكراد على الحكم الذاتي، الأمر الذي وصفه أتاتورك بأنه "حكم بالإعدام على تركيا" ورفض الاعتراف به، مثلما رفضه خلفاؤه، بمختلف انتماءاتهم الحزبية، والأيديولوجية؛ لتظهر مقاومة شديدة تطورت إلى حركة تحرر وطني حزب العمال الكردستاني (PKK).
من رحم اليسار التركي، ولد حزب العمال الكردستاني سنة 1978 بزعامة عبدالله أوجلان، الذي تم اعتقاله، في عام 1995، في كينيا في عملية مشتركة بين وكالة الاستخبارات الوطنية التركية ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والموساد، ولا يزال في حبسه الانفرادي في جزيرة إميرالي في تركيا حتى اليوم. وشكل تاريخ تركيا الدامي الطويل مع الحزب رافدا لجزء كبير من السياسة الوطنية وخاصة المسألة الكردية. وبينما لطّف حزب العمال مطالبه مع مرور الوقت من الاستقلال إلى الحكم الذاتي والحقوق الثقافية، والتزم بشكل كبير بوقف لإطلاق النار أحادي الجانب على مدى السنتين الماضيتين، مازال الكثير من الأتراك يعتبرونه تنظيما إرهابيا يسعى إلى تقسيم بلدهم. يقول خورشيد دلي، باحث مختص بالشؤون التركية والكردية، إن أتاتورك نجح في الالتفاف على معاهدة "سيفر"، عبر عملية مزدوجة، ففي الداخل توجه إلى الأكراد وخاطبهم باسم الدين والأخوّة والوحدة الوطنية إلى أن أقنعهم بإرجاء مطالبهم إلى مرحلة لاحقة. وبعد الموافقة، توجه أتاتورك إلى الخارج ونجح في إقناع المجتمعين في مؤتمر لوزان (1923) بصرف النظر عن فكرة الاستقلال.
اليوم ومع فارق الظروف، ثمة عوامل وأبعاد كثيرة تجعل ما جرى بين أردوغان وأوجلان، سنة 2013، واتفاق المصالحة بين الطرفين، لا يختلف كثيرا من حيث النتيجة عمّا جرى بين أتاتورك والهيئة الكردية قبل نحو قرن، مع فارق في أسلوب كل من أتاتورك وأردوغان واختلاف الظروف. ما إن حصل أتاتورك على دعم الغرب له، حتى بدأ بإعلان إلغاء صيغة الدولة الإسلامية للحكم، وتنصل ليس من اتفاقية “سيفر” فقط بل حتى ممّا جاء في اتفاقية لوزان بخصوص الأكراد وباقي الأقليات مثل العرب والأرمن والأشوريين، وهو ما دفع بالقائد الكردي سعيد بيران إلى إعلان الثورة ضد أتاتورك في عام 1925 أعقبتها ثورات وعمليات تمرد مسلح مستمرة، توقفت إثر مبادرة إيمرالي والتفاوض المباشر بين حكومة أردوغان وأوجلان عام 2013. أردوغان كان يريد من أوجلان تلك الكلمة السحرية التي نطق بها في بيان تاريخي من سجنه خلال الاحتفالات بعيد النوروز في ديار بكر قال فيه “وصلنا لمرحلة يجب أن يصمت فيها السلاح ويترك المجال للأفكار والسياسة للتحدث”. لذلك كرّر ما فعله أتاتورك مع الأكراد قبل نحو قرن عندما وجد أن المصلحة العليا تقتضي التقرب والاستفادة منهم في تأسيس جمهوريته على أنقاض الدولة العثمانية التي يريد أردوغان بعثها من جديد.
لكن، ما إن جاءت نتيجة الانتخابات التشريعية بما لا تشتهي إرادته وما خطّطت له سياسته، انقلب أردوغان على الاتفاق، وفشلت سياسة المصالحة مع الأكراد، مثلما فشلت من قبل محاولات الرئيس تورجت أوزال ورؤساء الوزراء نجم الدين أربكان ومسعود يلماز وبولنت أجاويد؛ والسبب الرئيسي لذلك أن الأتراك، سوءا كانوا أتاتوركيين أو عثمانيين جددا، قوميون في معدنهم الأصلي؛ ومحاربة الأكراد هي عقيدة الجيش التركي، فحتى لو نجح أردوغان في تحقيق ما طمح إليه (الدستور الجديد وترسيخ السلطة) كان من المتوقع أن ينقلب على اتفاق السلام. وكان ينظر دائما إلى مواقف رجب طيب أردوغان من الأزمة الكردية ودعواته لمعالجة أخطاء الماضي وتبني المسار الديمقراطي في حلها بعين الشك والريبة من الأكراد والمعارضة التركية على حد السواء. وتبنّيه مبدأ عدوّ عدوّي صديقي مع تنظيم الدولة الإسلامية ضدّ الأكراد يتنزّل في هذا السياق الانقلابي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق