صحيفة الشرق الأوسط: في البداية كان الخطاب يدور حول «تطبيق الشريعة». التفَّ حول الرايات السوداء كثيرٌ من شباب مدينة درنة الليبية الواقعة على ساحل البحر المتوسط في شرق البلاد. مع مرور الشهور جرى فصل ما لا يقل عن ثلاثين رأسا من أجسام عدد من أبناء القبائل وضيوف المدينة. حدث هذا على مرات متفرقة لشبَّان وصِبْيَة من ليبيا ومصر والسودان وسوريا. لماذا؟ لأنهم «كفار». هكذا بكل بساطة. كيف هم كفار وفي الوقت نفسه يؤدون الصلوات في مسجد «الصحابة» بقلب المدينة؟ على هذا المنوال بدأ الجدل يدور في غرف الضيافة في درنة التي كانت قديما معقلا للفنون والآداب. على بوابة مدرسة درنة الثانوية وعلى سور ملعب المدينة، وعلى كثيرٍ من جدران أخرى، ما زالت توجد شعارات «داعش» المكتوبة بخطوط سوداء وحمراء، عن أن دولة الإسلام باقية، وأن من حكم بغير ما أنزل الله فهو خارج عن ملة الإسلام، وأن حفتر (وهو الفريق أول خليفة حفتر قائد الجيش الليبي) «طاغوت».
لكن على الجانب الآخر من المدينة، أي في الوديان المحيطة بدرنة، كانت تعقد اجتماعات بين قادة المتطرفين. وبمرور الزمن، خرج بعضٌ من قصص المؤامرات التي كانت تدور فيها، ليس من ليبيين متشددين فقط، لكن من عرب وأجانب جاءوا للمدينة من وراء البحر. في أحد الأيام عثر أهالي الضاحية الجنوبية من درنة على رأس تبدو عليه ملامح شاب في مقتبل العمر. وبعد ثلاثة أيام من البحث عثروا على باقي جسده في مكب للقمامة بجوار المجلس البلدي القديم. جرى التعرف عليه. إنه عبد الله نجل علي، تاجر الأقمشة المعروف في المدينة. احتضن الرجل شتات الجثمان، وبدأ يروي ما جرى. تلقى علي في أبريل (نيسان) الماضي اتصالا هاتفيا من مجهول قال له فيه إن عليه أن يسدد لـ«المجاهدين» (أي المتطرفين) بالمدينة مبلغا وقدره 300 ألف دينار ليبي (نحو 100 ألف دولار). طبعا لم يكن مع الحاج علي كل هذا المبلغ، خاصة أن المدينة تعاني من الكساد وهجرها عدد كبير من أبنائها.
لم يكن هناك من يشكو إليه. فقد اختفت مظاهر الدولة هنا منذ سقوط نظام معمر القذافي. وبعد أسبوع من الموعد المحدد لدفع المبلغ اختفى ابنه، إلى أن عاد إليه جثة مفصولة الرأس. كانت عملية انتقامية لردع كل من يرفض سداد الإتاوات للمتطرفين الذين بدأوا يعانون من نقص في الأموال تحت وطأة حصار الجيش للمدينة منذ الصيف الماضي. مثل هذه القصص والحوادث التي وقعت في درنة منذ إعلان مجموعات من المتطرفين الولاء لتنظيم داعش والخلافة المزعومة، العام الماضي، دفعت وجهاء القبائل لإعادة التفكير في أهداف التنظيم. وفي أعقاب العديد من حوادث القتل والاختطاف ونهب الأموال، جرت مواجهات صاخبة بين زعماء من القبائل وشبان من أبنائهم كانوا يعملون في صفوف «داعش» وجماعات متطرفة أخرى. منذ أبريل الماضي خرج من المدينة عدة عشرات من وجهاء القبائل والتجار وتمكنوا من اصطحاب المئات من أبنائهم وأقاربهم معهم بعد أن فكوا ارتباطهم بالمتطرفين. وكان من اليسير مشاهدة السيارات وهي تحمل أمتعة المهاجرين وتتكدس على بوابات الخروج من درنة.
البعض لجأ إلى مدينة طبرق التي تعقد فيها جلسات البرلمان وتقع على بعد 150 كيلومترا شرق درنة، والبعض الآخر استقر في مدية القبة المجاورة لمدينة البيضاء التي تعقد فيها جلسات الحكومة المؤقتة. وبدأ عدد من أبنائهم في التعاون مع قوات الجيش الوطني والأجهزة الأمنية. كما لجأ بعض المقتدرين للإقامة في مدينة البيضاء نفسها. يأتي هذا بعد نحو شهرين من تبني مؤتمر عقدته القبائل الليبية في القاهرة مشروعا يهدف إلى رفع الغطاء القبلي عن أبنائها الذين يعملون مع التنظيمات المتطرفة. يقول الحاج علي، الذي استقر في البيضاء مع ولديه الآخرين (16 سنة و18 سنة)، إن الشبان الفارين من سطوة «داعش» لديهم معلومات تفصيلية عن أماكن تجمع المتطرفين وأوكارهم، سواء في ضواحي درنة الشرقية أو في المناطق الجبلية المحيطة بالمدينة. حسين جمعة، كان يدير شركة لتأجير السيارات في درنة قبل أن يفر منها منذ خمسة أشهر إلى مدينة القبة، خشية قتله من المتطرفين، يشير إلى أنه تبين له، ولمعظم رجال القبائل في درنة، وغيرها من المدن الليبية، أن خطاب تنظيم داعش «هو الضلال بعينه.. يُكبِّرون.. يرفعون اسم الله ويقتلون المسلمين». ويقول إنه لم يجلب معه إلا متاعا قليلا.. غيارات ملابس وبطاطين له ولأسرته. ويستأجر منزلا ويشتري الطعام من مدخراته.
ولدى جمعة ثلاثة أبناء تتراوح أعمارهم بين 19 و27 سنة. اصطحبهم معه، لكن القبة لم تسلم وقتها من هجمات «داعش» بالسيارات المفخخة. وبعد آخر هجوم وقع في مايو (أيار) الماضي، بدأ أبناؤه مع مجموعات من شباب قبائل البراعصة في تكوين لجان تطوعية لإبلاغ الجيش عن أي غريب يدخل إلى «القبة». وخلال ذلك كانوا يقدمون مساعدات للفارين من درنة ومن مدن أخرى غير مستقرة مثل بنغازي. ويأمل جمعة مع عشرات من أقاربه في العودة إلى ديارهم في منطقة الكرسة في درنة، مع تقدم الجيش ومحاصرته للمتشددين. لكن قيادات أمنية تقول إن رجوع النازحين إلى درنة ما زال سابقا لأوانه، فما زال هناك الكثير من العمل لتطهير المدينة، كما أن المتطرفين، رغم محاصرتهم، ما زال يصلهم بعضٌ من مدد من الأسلحة والمقاتلين عبر البحر. منذ سنوات، ظل أبناء درنة يلتقون، عقب كل صلاة جمعة، في أكبر مساجد المدينة وأشهرها؛ مسجد «الصحابة». يتبادلون التحيات والسؤال عن الأحوال. ويستمد المسجد اسمه من كثرة من يعتقد أنهم كانوا من أصحاب النبي (صلى عليه وسلم) ودفنوا في هذه المدينة أيام الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا، أو هكذا يعتقد بعض الناس هنا. وعبر مئات السنين اختلطت الثقافة الوسطية بطيبة أهل درنة وميلهم إلى قرض الشعر والغناء ورواية القصص الشفاهية عن أحداث الزمن القديم، وفي الوقت نفسه الالتزام بتعالم الدين بعيدا عن التطرف. لكن المدينة تعرضت لتحول كبير حين بدأت «حرب المجاهدين» في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي.
ظهرت فيها الجلابيب القصيرة واللحى وشعر الرأس المنسدل على الكتفين. مظاهر جديدة غزت درنة. وبدلا من الرداء الليبي الشهير الذي كانت ترتديه النساء، وهو رداء ذو خطوط طويلة مفضضة، فرضت الجماعات المتطرفة عليهن ملابس سوداء مع غطاء كامل الوجه والكفين. دعا ذلك القذافي، في التسعينات، لوصف متطرفي المدينة الذين كانوا قد عادوا حديثا من أفغانستان بـ«المقمّلين» بسبب مظهرهم البوهيمي، و«الزنادقة» نظرا لميولهم المتشددة. طوال السنوات الماضية كانت الحياة في درنة تتغير ببطء ويحل الخوف والتربص محل الأمن والطمأنينة. هجرت الأسر شواطئ البحر. تحول ميناء المدينة إلى مركز لاستقبال البواخر المريبة التي تأتي كل أسبوع أو اثنين بالأسلحة وبعشرات الغرباء من سوريا والجزائر وتونس ومصر وبعض الأوروبيين أيضا. في أول الأمر، وبالتحديد مع أواخر عام 2013، تسبب الوافدون الجدد في إنعاش المدينة اقتصاديا. يعلق علي قائلا إنهم في البداية كانت معهم الكثير من الأموال، وينفقون بلا حساب. يشترون كل شيء ببذخ. من السيارات للحوم والفاكهة والمشروبات الغازية. لكن في الشهور الأخيرة، ومع تضييق الجيش الليبي الخناق عليهم ومحاصرته للمدينة، أخذت الأوضاع تتغير. بدأ هؤلاء المتشددون في البحث عن الأموال في جيوب أهالي درنة.
يقول عبد الله أمحمد، وهو ضابط قديم في الجيش الليبي المتمركز قرب درنة، إن الحرب الدولية على العراق في 2003 وما بعدها أراحت ليبيا من المتطرفين الذين غادروا وقتها درنة للحرب مع تنظيم القاعدة في العراق، مشيرا إلى أن العشرات من القادة الليبيين المتطرفين، من درنة ومدن وبلدات أخرى مثل بنغازي وصبراتة.. «أراحوا القذافي من إثارة القلاقل لسنوات قبل أن يعودوا ويشاركوا في الانتفاضة عليه في 2011». ومنذ الإطاحة بالنظام السابق سيطر تنظيم القاعدة على درنة، واستقبل مئات المقاتلين الأجانب، ثم انشق التنظيم على نفسه وأصبحت مجموعة منه توالي «داعش». وبعد مضي شهور قليلة تحول هذا الانشقاق إلى اقتتال بين الفريقين.. «داعش» و«القاعدة». هذا بطبيعة الحال يسهل مهمة الجيش ومحاولته المستمرة لتطهير كامل المدينة من المتطرفين، لكن الخطر سيظل قائما لفترة طويلة كما يقول الضابط أمحمد. وتعد المجموعة التي تطلق على نفسها «كتيبة أبو سليم» ممثلا لتنظيم القاعدة في درنة، وغالبية عناصرها من الليبيين، بينما يهيمن على «داعش» في درنة مقاتلون عرب وأجانب، إلا أن الاشتباكات التي وقعت بينهما تصب في مصلحة الجيش الذي تمكنت مجموعات تابعة له من دخول المدينة لأول مرة منذ سقوط النظام، ورفع علم الدولة على عدة مؤسسات، وسط احتفال الأهالي بالتخلص من الجماعات المتطرفة التي كانت تثير الرعب في هذه البلدة الساحلية.
هذا متغير لافت.. فمثل أبناء مدن أخرى، كان أهالي درنة قد علقوا آمالا عريضة على مرحلة ما بعد مقتل القذافي، حيث بدأت المجموعات المتطرفة نشاطها عقب انتهاء النظام السابق بحملة لتنظيف الشوارع وتنظيم حركة مرور السيارات، وهذا كان مؤشرا طيبا، كما يقول جمعة. لكنه يضيف أن هذه المجموعات طورت من عملها سريعا بعد أن التحق بها مقاتلون غرباء، وأخذت في نصب البوابات والتفتيش عمن يخالفون شرع الله من وجهة نظرها، مثل ارتداء الرجال والنساء للسراويل الضيقة (الجينز) ثم منع لبس البناطيل، في مرحلة لاحقة، ثم هدم قاعات الزفاف، وانتهى الأمر برفع الرايات السوداء وقطع رؤوس المخالفين لها في ساحة مسجد «الصحابة». لم يكن أحد يتخيل أن مظاهر الدولة يمكن أن تعود إلى أي بقعة من درنة ولا إلى أي بقعة من المدن التي استولت عليها العناصر المتطرفة التي كانت تتجول بخيلاء بواسطة سيارات الدفع الرباعي والمدافع والمدرعات. يتذكر جمعة تلك الأيام: «كانوا يستوقفون أحد الشبان ويسألونه عن حفتر مثلا. إذا قال إنه لن يجيب، يعلقونه في عمود الضوء، ويجلدونه.. أحيانا يقطعون رأسه ويلقونه في صندوق القمامة. لهذا حين يستمرون في مقوله تطبيق شرع الله وإقامة دولة الخلافة، فمن سيصدقهم؟».
واليوم، وبعد قرابة عشرة أشهر من إعلانه الحرب على المجموعات الإرهابية، تمكن الجيش من دخول بعض مناطق درنة، وتمكن أيضا من طرد المتطرفين الآخرين من بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية، وكانوا خليطا من تنظيم «أنصار الشريعة» و«الإخوان» و«داعش» و«القاعدة». وأمام المراقبة التي أصبح يفرضها الجيش داخل عدة أحياء في غرب درنة، لجأ مقاتلو «داعش» و«القاعدة» إلى التحصن في بعض الضواحي داخل المدينة من ناحية الشرق والجنوب وفي الجبال والكهوف المحيطة، مع ملاحظة استمرار الخلافات بين التنظيمين، والذي يذكر بما يحدث من اقتتال في سوريا بين «داعش» وجبهة النصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق