العرب اللندنية: عادت مسألة تقسيم العراق لتطفو على السطح من جديد وفق خارطة قديمة – جديدة تقترح تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم سنية وشيعية وكردية. وبدا، في الفترة الأخيرة، وكأن الديمقراطيين، في الكونغرس الأميركي، يشنون حملة من أجل دعم هذا المشروع لإنقاذ واشنطن من مأزقها في العراق، فبالتزامن مع مشروع قانون تقدّمت به لجنة الخارجية في الكونغرس ينصّ على التعامل مع الأكراد والسنة في العراق باعتبارهما كيانين مستقلين، تصاعدت أصوات مسؤولين أميركيين تدافع عن خيار التقسيم. وفي أحدث تصريح في هذا السياق، قال السيناتور الديمقراطي تيم كاين إن "تقسيم العراق على أسس طائفية قد يكون البديل الواقعي الوحيد". وصرح السناتور عن ولاية فرجينيا، خلال مقابلة تلفزية في برنامج "جون فريدريكس شو"، أن "هذا هو النهج الذي يحظى بدعم قوي، وقد تحدّث عنه نائب الرئيس جو بايدن منذ سنوات". واستطرد كاين موضّحا "أقول لكم إن لدي قلقا من هذا الموضوع أنه لا يمكن حكم العراق وهو موحد لذلك لا بد من تقسيمه، لكن ما يقلقني حقا هو تعزيز مكانة إيران لأنه في حال حصول ذلك سوف يكون هناك كيان شيعي يخضع بشكل كبير لسيطرة إيران".
وأضاف "ستكون هناك منطقة كردية، والأكراد حلفاؤنا بشكل كبير، ونحن نعمل على نحو وثيق جدا مع الأكراد، ولكن بعد ذلك سينتهي بنا الأمر إلى المنطقة السنية حيث لا يوجد الكثير من الموارد النفطية في هذه المنطقة وأعتقد أن المتطرفين السنة سوف يسيطرون عليها بسهولة. وهكذا، سوف ينتهي الأمر بمعركة بين الأكراد والسنة والشيعة". وقبل أيام قليلة، من تصريحات تيم كاين، تحدّث السيناتور الديمقراطي جو مانشين، في نفس السياق، مطالبا بدوره، بلاده والمجتمع الدولي باحتضان فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دول منفصلة من أجل إخماد العنف الطائفي المندلع في البلاد. وقال مانشين، وهو عضو في لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ "الجميع سخر في البداية من هذه الفكرة، ولكن خلاصة القول إننا جرّبنا كل شيء آخر دون جدوى". وأضاف أن تقسيم البلاد بين الشيعة والسنة والأكراد "قد يكون الخيار الأفضل لأنهم". ويدعم الموقفين السابقين، السيناتور الديمقراطي تولسي كابارد، الذي قال بدوره "على أرض الواقع، توجد ثلاثة أقاليم مختلفة في العراق"، مضيفا "أكدت مرارا على إدارة أوباما، أن يغير سياسته الداعمة لبغداد، وأوضحت له أن الحكومة الاتحادية تؤجج الصراعات المذهبية". وفي نهاية شهر مايو الماضي نشرت شبكة "سي ان ان" الأميركية تقريرا مصوّرا حمل عنوان "سيناريو تقسيم العراق.. توزيع مناطق السيطرة والثروة والسكان"، جاء فيه "يعتقد العديد من الخبراء أن العراق سيقسم إلى ثلاثة مكونات رئيسية: أولا الأكراد، ويشكلون 17 في المئة من الشعب العراقي، والعرب السنة ونسبتهم 20 في المئة، والشيعة يشكلون 60 في المئة".
وجاء توزيع الأراضي العراقية وفق تقرير الشبكة الأميركية كالآتي:
* إعطاء الأكراد المناطق الواقعة في الشمال الشرقي الغني بالنفط.
* السنة سيحصلون على الجزء الأوسط من العراق من الحدود مع الأردن وسوريا امتدادا إلى بغداد.
* الشيعة سيحصلون على الجزء الجنوبي من البلاد.
حقيقة تقسيم العراق
تعود فكرة تقسيم العراق أساسا إلى القرن الماضي، وخصوصا في مؤّلفات وخرائط المفكر الأميركي المتخصص في الشرق الأوسط برنار لويس؛ لكن لم يتطوّر الحديث عن هذه الخطة إلا بعد أن أحياها نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، عبر تقديمه لخطة تقترح تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم: سنّية وشيعية وكردية، مع الإبقاء على العاصمة بغداد. تعود خطّة بادين إلى سنة 2006، وكان وقتها عضوا في مجلس الشيوخ، ثم أعاد طرحها سنة 2013، إثر توليه منصب نائب الرئيس الأميركي. واليوم وبقدر ما تتعقّد الأزمة في العراق يكثر الحديث عن طرح بايدن كأحد الحلول "الواقعية"، خاصة مع تقديم واشنطن مساعداتها المالية مباشرة إلى المكوّن الكردي وأيضا دعمها للعشائر السنية كطرفين مستقلين وبعيدا عن حكومة بغداد المحسوبة على إيران الشيعية. ودعما لمشروع التقسيم الذي طرحه بايدن، تحدّث سنة 2007، إدوارد جوزيف ومايكل أوهانلون، الباحثان في معهد بروكينغز الأميركي، عن "دواعي التقسيم الناعم للعراق" إلى ثلاث مناطق: جنوبية، وسطى، شمالية. وأكدا أن تحقيق الأمر يتطلب وجود حرب طائفية في العراق.
وكان ريتشارد هاس، مدير مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، توقع في كتابه "حرب الضرورة أم حرب الاختيار" (صدر في 2009) تفكك العراق إلى ثلاث دويلات مع هيمنة إيرانية مباشرة على محافظات الجنوب، وانفصال منطقة كردستان (شمال العراق) بعد إعلان استقلالها، أما الشمال الغربي، فيبقى من حصة المتشددين السنة الطامحين إلى إنشاء دولة سنية في محافظات غربي العراق، بما فيها الموصل الممتدة إلى مدن شرق سوريا. بدروه، يشير الباحث رهاب نوفل في كتابه "مشروع مقاومة تقسيم العراق وتفتيته" (إصدارات 2015) إلى أن"الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق عام 2003، لم يكن يستهدف العراق وحده. بل بلاد الرافدين كانت الميدان المباشر، فيما الهدف الأبعد كلّ الوطن العربي". وتشير إحدى الوثائق التي تضمّنها كتاب نوفل، الصادر عن مركز الوحدة العربية، إلى أنه "يمكن تقسيم العراق إلى ثلاث مقاطعات إقليمية كما حدث في سوريا أثناء الحكم العثماني". ويبرز من الوثائق التي رفد بها رهاب نوفل كتابه تقرير صادر عن مؤسسة راند الأميركية، القريبة من مركز القرار السياسي، كتبه غراهام فولر، الرئيس السابق لقسم البحوث والتخطيط في وكالة الاستخبارات الأميركية، عام 1992، وفيه يدعو إلى ضروره قلب الحكم في العراق، بحيث يصبح الحكم شيعيا ويتحول السنّة إلى أقلية.
أدلة ملموسة
ومع احتدام المعارك بدأت بالفعل ملامح خطوط الأقاليم الثلاثة ترسم بطريقة جغرافية ومذهبية، وحتى نفطية. وذكرت وكالة “سبوتينك” الروسية أن هناك أدلّة ملموسة عن دخول مشروع تغيير العراق ديمغرافيا وتهيئته للتقسيم حيّز التنفيذ؛ وذلك عبر محاولة ضمّ ناحيتي الرحالية والنخيب من محافظة الأنبار ذات الغالبية السنية، لمحافظة كربلاء ذات الطابع الديني المقدس لدى الشيعة. وشمل التطهير العرقي، قضاء "تلعفر" أكبر أقضية العراق شمالا، التابع لمحافظة نينوى التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وأفرغها من أقلياتها العائد تاريخ دياناتها إلى ما قبل ظهور الإسلام، كالمسيحية والإيزيدية. وطهرّت عرقيا القرى المحيطة بناحية "آمرلي" في قضاء"الطوز خورماتور"، المتنازع عليها دستوريا بين "حكومة المركز" وإقليم كردستان، وهي ذات الغالبية التركمانية الشيعية التي قاومت تنظيم داعش لشهور عدة بصمود. وما يشهده سهل نينوى في شمال العراق دليل آخر، حيث يجري إفراغه من أقلياته على يد تنظيم داعش، بالكامل بعد تخيير المسيحيين، إما اعتناق الإسلام وإما دفع جزية أو تقديم رقابهم للنحر أو ترك الأرض، والإيزيديون الذين لم يحظوا بأي خيار ينقذ رجالهم من الإعدام الميداني ونساءهم من السبي والتحول لجواري لعناصر التنظيم، الذي يتاجر بالمئات منهن في أسواق الرقيق.
وتنقل الوكالة الروسية عن الخبير الأمني العراقي هشام الهاشمي، تأكيده أن "ما يحدث هو تغيير ديموغرافي بهدوء وبعلم الكبار وصناع القرار وهيئة الأمم بذلك". أما الباحث السياسي الكردي كفاح محمود، فقد قال إن "الشعب الكردي قاب قوسين أو أدنى من التقسيم، ولو أجرى الإقليم استفتاء الانفصال، سيوافق أكثر من 90 بالمئة من الأكراد على الاستقلال عن المركز". أصوات كثيرة تتعالى مدافعة عن خيار تقسيم العراق، الذي لم يعد فقط طرحا نظريا بل أصبح أحد السيناريوهات المفضلة لدى تيار واسع من السياسيين والإستراتيجيين الأميركيين، وأيضا أقلية سياسية في العراق على غرار الأحزاب الكردية والحزب الإسلامي العراقي، الجناح العراقي لجماعة الإخوان المسلمين، الذي يؤيّد فكرة انشاء إقليم سنّي. لكن مهندسو مشروع التقسيم الأميركي لم يأخذوا بعين الاعتبار أن في العراق مكوّنات وهويات أخرى غير السنة والشيعة والأكراد؛ فهناك المسيحيون والإيزيديون والتركمان وغيرهم، كما أن جزءا كبيرا من المحافظات العراقية متداخلة طائفيا، كالتواجد السنّي في البصرة والوجود الشيعي في صلاح الدي ، ناهيك عن مشكلة توزيع النفط والثروات الطبيعية، فعلى سبيل المثال جزء كبير من الثورة النفطية ستكون تحت يد الأكراد. إن إغفال هذه المعطيات الرئيسية يجعل من مشروع تقسيم العراق ناقصا، وأي محاولة لفرضه على أرض الواقع ستكون أزمة أخرى تغرس في جسد العراق الواهن. واحتمالات تقسيم العراق لن تجلب السلام إلى المنطقة بل ستضاعف من صراعاتها، خاصة وأن القوى العالمية الأخرى، كما قال المحلل السياسي العراقي حسين درويش العادلي "غير مستعدة حاليا لهضم خارطة سياسية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، وما تنتجه من تحولات بنيوية هائلة" تهدد مصالحها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق