صحيفة الشرق الأوسط: قد يعتقد البعض أن الوقت الآن مناسب للاستفادة من «التململ الشيعي» في لبنان جراء انخراط «حزب الله» في الحرب السورية وتكلفتها العالية على الشارع الشيعي، أمنيا وسياسيا وبشريا، مع توالي الجنازات في القرى الشيعية في لبنان، لكن الشارع الشيعي اللبناني أثبت - حتى اللحظة - أنه لا يزال عصيا على الاختراق من قبل خصومه. فكيف بزمرة قليلة من الناشطين الشيعة الذي يواجهون الحزب بمنطق يختلف عن منطقه الذي يحظى بشعبية واسعة في الأوساط الشيعية التي كانت خائفة من إسرائيل، ثم انتقلت اليوم إلى الخوف من إسرائيل و«التكفيريين» وهي التسمية المعتمدة للتنظيمات المتطرفة أمثال «داعش» و«جبهة النصرة». يعاني الشيعة اللبنانيون المعارضون لـ«حزب الله» من وقوعهم بين مطرقة الحزب وسندان معارضيه.
فالحزب الذي انتقل من عدم الاعتراف بهم، إلى تهديدهم، كان في بعض الأحيان أكثر رأفة بهم من خصومه الذين «استعملوا» هؤلاء كفلكلور للتعددية الوطنية في المناسبات، ثم لجأوا إلى «حزب الله» للتحاور معه عند وقوع الخطر من الفتنة السنية - الشيعية باعتباره الممثل الوحيد لشيعة لبنان. ولعل نقطة الضعف الأبرز لدى هؤلاء، هي خطابهم الوطني في زمن الطوائفيات. فغالبية المعارضين للحزب يرفضون أن يكونوا «مشروعا شيعيا» في مواجهة مشروع «حزب الله»، مفضلين التزام خيار الدولة والخطاب الوطني.
وأتت برقيات «ويكيلكيس» التي نشرتها عدة صحف قبل أربع سنوات، من بينها صحيفة «الأخبار» اللبنانية لتلقي الضوء على مواقف مجموعة من الشيعة اللبنانيين كانوا يتناقشون مع أركان السفارة الأميركية في الوضع السياسي الداخلي، وتأثير «حزب الله» في الشارع الشيعي، وكيفية مواجهة هذا التأثير. وقد شهر الإعلام الموالي للحزب بهؤلاء، وتم تصنيفهم على أنهم «خونة»، وأعطوا اسما هو «شيعة السفارة» أو «شيعة فيلتمان» بالإشارة إلى السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان. وقد تسلط الضوء على المعارضين الشيعة، بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري في عام 2005، فخرج هؤلاء إلى العلن لأول مرة، وألفوا ما عرف بـ«اللقاء الشيعي» الذي ضم معارضين للحزب. غير أن هذا اللقاء تعرض لضربة قاصمة من قبل «14 آذار» بذهابها في وقت لاحق إلى تحالف انتخابي مع «حزب الله» وحركة «أمل»، القوة الشيعية الثانية.
ويتهم الكاتب والصحافي قاسم قصير تيار «المستقبل» بتفشيل اللقاء. ويعدد قصير، الملم بملف الحركات الإسلامية، لـ«الشرق الأوسط» عدة أسباب لعدم قدرة المعارضين للحزب على إثبات أنفسهم في المواجهة المفتوحة معه، أبرزها «تشتت هذه القوى وانقسامها وعدم وجود قاسم مشترك بينها»، مشيرًا إلى أن عددا من هؤلاء تم استعمالهم من قبل تيار المستقبل وقوى «14 آذار» للاستفادة منهم تكتيكيا من دون دعم حقيقي. ويضيف قصير سببا جديدا هو النظام الانتخابي الأكثري الذي يمنع هؤلاء من التمثل في البرلمان، بالإضافة إلى «سوء خطاب المعارضين الذي لا يراعي حساسيات البيئة الشيعية التي يمثلها»، معتبرًا أن هؤلاء همهم الأساسي هو انتقاد «حزب الله» وحركة «أمل» من دون الانتباه إلى ما يفكر به المواطنون الشيعة وما يراعي هواجسهم. وأوضح أن «اقتصار عمل هؤلاء على الجانب النخبوي أثر على حركتهم وقلل من وصولهم إلى الناس»، متحدثا عن عامل آخر هام هو الفساد المالي وإساءة التصرف بالأموال التي تلقاها بعض هؤلاء لتنفيذ مشاريع. ولفت إلى أنه لم يتم تنفيذ أية مشاريع ملموسة لها علاقة بتحسين أوضاع الناس، بغض النظر عن عدم دقة مقارنة قدراتهم بقدرات «حزب الله».
ويقر منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار فارس سعيد أن المعارضين الشيعة «مظلومون» من قبل 14 آذار، إلا أنه أكد أنهم ليسوا وحدهم فـ«أيضا الأرمن المعارضين للطاشناق مظلومين وغيرهم أيضا». وقال سعيد لـ«الشرق الأوسط»: «كل من يظن أنه قادر أن يغير قوى الأمر الواقع داخل طائفته غلطان. لذلك في أي حلحلة تصبح مع حزب الله لا يمكن أن يكون للمعارضين الشيعة دور، رغم أننا نسعى لذلك». وأضاف: «نحن نعترف بهذا التقصير ونعمل من أجل حلحلة الوضع عبر إنشاء المجلس الوطني لقوى (14 آذار) ونريد أن يكون دورهم فعالا أكثر في الأيام المقبلة». ويرى الكاتب اللبناني محمد شبارو أن ما جعل «شيعة السفارة»، بالمفهوم المعارض لـ«حزب الله»، لقمة سائغة للحزب وتهديداته واعتداءاته، هي «14 آذار» بحد ذاتها، بأحزابها وتياراتها، المتفردة دومًا بالقرار، والرافضة لأي صوت مضارب، وهو عمليًا ما أدى إلى سقوط فكر «14 آذار»، كقوى عابرة للمناطق والطوائف والمذاهب، وتحولها إلى مجلس ملّي لبعض الأحزاب المسيطرة على شارع طائفي معين. وقال: «في عام 2005، ومع انطلاق ثورة الأرز، لم يكن الشارع الشيعي خارج (الثورة)، كان حضوره من حضور باقي الطوائف، سنّة ودروز وموارنة، وإن خارج القيد الطائفي.
في ذلك الوقت، شاركت أعداد ضخمة من الشيعة المعارضين للوجود السوري، في لبنان، والذين رأوا في جماهير ساحة الشهداء خير ممثل لهم ولنظرتهم إلى لبنان. لكن بعد عام 2005، انتهجت أحزاب السيادة والاستقلال سياسة إقصائية واضحة، لم تراعِ فيها أي حيثية تذكر لـ«شيعة السفارة»، بدءًا من الحلف الرباعي، مرورًا بكل السياسات المتبعة مع «حزب الله» وحركة «أمل» والتي كرستهما ممثلين وحيدين للطائفة الشيعية. ولفت إلى أنه «حتى على أبواب الانتخابات النيابية عام 2009، دخلت إلى بيت الطائفة، إما بأسماء إقطاعية، أو بأسماء هامشية غير قادرة على خرق الشارع، ولا حتى تقديم أي برنامج أو فكر مضارب، نظرًا إلى سمعتها وصيتها المعروف بقاعًا وجنوبًا». ورأى أن أحزاب وتيارات «14 آذار» لم تقدم مشروعًا واحدًا للعبور الجدي إلى الدولة المدنية. على العكس، قدمت منذ عام 2005 مشروع الدولة الطائفية المركبة وفق المحاصصة بين تيارات يمثل كل منها طائفة. تماهت مع السائد لبنانيًا حدّ العمى، بدلاً من أن تقدم جديدًا يسهم في العبور إلى الدولة. قدمت مشروعًا يضم «المستقبل» عن السنّة، و«القوات» و«الكتائب» عن الموارنة، وبقية غبّ الطلب انتخابيًا أو للمناكفة مع «حزب الله» وحركة «أمل».
ويقول الكاتب والصحافي اللبناني علي الأمين، أحد المصنفين من «شيعة السفارة» إنه لا يمكن وصف حال الشيعة المعترضة على «حزب الله» بأنها «قوى شيعية تريد أن تشبه حزب الله وتنافسه على القرار السياسي للطائفة». ويضيف الأمين الذي يدير موقع «جنوبية» المتخصص بشؤون الجنوب اللبناني: «معظم القوى الشيعية تعتبر نفسها في البعد السياسي منتمية إلى أطر وطنية تبتعد عن الجانب الآيديولوجي المذهبي - الطائفي. وإذ يشدد لـ«الشرق الأوسط» على أن لا مشروع شيعيًا لهذه القوى، يجزم بأنها تنتمي بطبيعتها إلى الهوية اللبنانية وعنوانها السياسي الذي يجعل لبنان وطنا، والهوية الوطنية هي الهوية المتقدمة على كل الهويات. ويرى الأمين أن حزب الله أوغل في هويته الآيديولوجية التي تجعله يعتقد أن من حقه أن يكون موجودا أينما احتاج الأمر، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا، وهذا غير موجود لدى معارضيه الشيعة وجزء كبير من الشيعة غير المسيسين.
ويعتبر الأمين أن أحد أهم عناصر قوة حزب الله، إضافة إلى العسكر والمال والسياسة، هو أنه يتغذى بنفوذه من العناصر المتطرفة في المقابل، فيستفيد من «داعش» كما يستفيد «داعش» وغيره من المتطرفين من الحزب لخلق النفوذ في بيئاتها. وهذا ما يجعل الحزب يذهب بعيدا في المزيد من التعبئة المذهبية التي تجعل الناس تعيش الخوف من الخطر الوجودي، مما يجعل من الصعوبة بمكان أمام الخيارات المعتدلة أن تثبت وجودها. ويشير الأمين إلى أن التيارات المعارضة للحزب في البيئة الشيعية هي «أطراف لها هويتها العربية والوطنية ولدى بعضها الصفة الشيعية».
ويقول: «إنها قوى متنوعة منها ما له عنوان وطني، ومنها عنوان تقليدي (العائلات الكبرى) ومنها أيضا عنوان ديني يختلف مع «حزب الله» في رؤيته. لكن هذه القوى على اختلافها عارضت تدخل حزب الله في سوريا»، معتبرا أن مخاطر هذا التدخل بدأ الناس يتلمسونها اليوم، خصوصا أن الحزب بدأ بخطاب الدفاع عن الأسد، ووصل به الأمر اليوم إلى خطاب الدفاع عن لبنان، موضحًا أن الخسائر البشرية الكبيرة غير المتوقعة تلعب دورها. وقال: «هناك نوع من القلق وسؤال (إلى متى؟) بات موجودا داخل الطائفة، وهذا قد يؤدي إلى إمكانية سماع الأصوات المعتدلة. واستدرك: «لا أريد أن أقول إن هناك تحولا، لكننا في لحظة تأمل، خصوصا أن الحزب انتقل من خطاب القوة إلى لغة مختلفة فبدأ يتحدث عن أنه (لو ذهب نصفنا أو ثلاثة أرباعنا سنكمل) وهذا مؤشر على خطاب الخوف أو التخويف القائم بعدما كان يعد دائما بالانتصارات». وإذ يرى أنها «لغة لها تأثير سلبي على الجمهور»، مشيرا في المقابل إلى أن لها تأثير آخر يساهم بالمزيد من إمساك الحزب للقرار داخل الطائفة.
وفي جميع الأحوال، يرى الأمين أن ثمة فرصة الآن للقوى المعارضة للحزب للتعبير عن موقفها، وفرصة أكبر لخطوات عملية نحو المزيد من التأكيد على العودة إلى الدائرة الوطنية، وهذا هو الخيار الاستراتيجي لهذه القوى في سعيها إلى حماية لبنان وتحصينه من الداخل وحماية الطائفة من التداعيات المحتملة للتغيير الحقيقي في سوريا. ويشدد على أن يكون هذا كله في سياق تأكيد على الهوية اللبنانية كهوية متقدمة، على أساس الشراكة كمجموعات طائفية ومذهبية، مما يفرض على الجميع أن يحترم حقوق الشراكة الوطنية». ويشدد الأمين على أن خيارات الطائفة الشيعية في لبنان هي تلك التي عبر عنها الإمام موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والقيادات الشيعية اللبنانية الأخرى التي كان لها دور في تثبيت الكيان اللبناني والتأكيد على الهوية الوطنية اللبنانية.
على الصعيد الشخصي، يرفض الأمين الذي يعيش ويعمل في ضاحية بيروت الجنوبية، أن يدخل في «ادعاءات» حول الضغوط التي يتعرض لها. مكتفيا بالقول إنها «تجربة مكلفة». ويقول: «من المؤكد أن كل من يريد أن يأخذ موقفا معارضا يعي أنها مسألة مكلفة»، ويبرر ذلك بالقول: «الناس لديها مصالحها، وحزب الله يمسك بمصالح الناس، وقد تخطى بذلك الرئيس نبيه بري الذي تراجعت خصوصيته. فالمعارض (للحزب) إذا أراد أن يذهب لمراجعة البلدية في بعض شؤونه سيلاقي مصاعب، وكذلك في مؤسسات الدولة الرسمية وحتى القطاع الخاص. ليخلص إلى القول إن تكلفة معارضة الحزب هي «تكلفة عالية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا».
وفي الإطار نفسه، يشير الناشط السياسي، وعضو تجمع «لبنان المدني» مالك مروة إلى أن صحيفة «الأخبار» كانت أول من استعمل تعبير «شيعة السفارة»، معتبرا أن هذه التسمية يمكن أن تستعمل مع أي شخص يختلف مع «حزب الله» وهي طريقة لتخوينه وهدر دمه في مكان ما. ويرى مروة أن مضمون ما نشر في برقيات «ويكيليكس» عن الشخصيات الشيعية المعارضة لا يمكن أن يقارن بما قاله حلفاء «حزب الله» في هذه البرقيات. ويفضل مروة استعمال تعبير «المختلفون» بدلا من المعارضين، معتبرا لـ«الشرق الأوسط» أن غالبية هؤلاء خيارهم هو الدولة والعودة إليها، وبناء وطني يتسع فيه الجميع. ويشدد على أن هؤلاء لا يمتلكون مشروعا شيعيا ثانيا، لكنهم مضطرون أن يتحدثوا اللغة الطائفية، وأن يتكلموا كشيعة لأن النظام السياسي في لبنان يصنف الناس وفق انتماءاتها الطائفية. ويلمح مروة إلى أن عدم تأطير «المختلفين الشيعة» عملهم في هيئة أو حزب، مرده أن هذا التأطير سيجعلهم في مواجهة الخطر المباشر.
ويقول: «فضل الكثيرون العمل على الصعيد الفردي تجنبا لمخاطر العمل كمجموعة»، ويشدد مروة على أن الخروج من الاستقطاب الطائفي القائم يحتاج إلى مساهمة كبيرة جدا. ويرى أن الشيعة في لبنان، وغيرهم من الأقليات في المنطقة، يحتاجون إلى الخطاب السني المعتدل. وإذ يؤكد أن غالبية السنة في المنطقة هم معتدلون، يرى أن الظواهر المتشددة تستهدف الاعتدال السني بالدرجة الأولى. ويأخذ على المكونات السياسية والطائفية الأخرى في لبنان عدم اعترافها بوجود شيعة يختلفون عن «حزب الله»، ويحصرون حوارهم معه، مما يضعف دور المختلفين الذي يواجهون باللحم الحي ماكينة سياسية عسكرية اقتصادية تدفع ملايين الدولارات سنويا. ويضيف: «الشيعة المستقلون في لبنان، هم أكثر أناس تركوا، وهم يتابعون نضالهم من دون كلل أو ملل» معتبرا أن تأثير هؤلاء بات كبيرا إلى حد أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله اعترف بخطرهم، بعد أن كان يتجاهلهم طويلا ويعتبرهم غير موجودين.
ويؤكد مروة أن «الإيرانيين والسوريين ابتدعوا مسألة (حصرية المقاومة)، ووضعوها بيد (حزب الله) وبقية المكونات صفقت له، واعترفت له بهذا الحق، مما أعطاه مشروعية معينة في نظر الناس العاديين». واعتبر أن المواجهة لا تكون بخطاب شيعي مضاد، بل بخطاب وطني. وعبر مروة عن شعور متنامٍ بين أبناء الطائفة الشيعية في لبنان حين قال: «نحن نقف ضد حزب الله حرصا عليه وعلى الشيعة ولبنان. وتلويث يده بالدم السوري مرفوض تمامًا، وهو مشروع خاسر، ونقول له دائما: «سلم سلاحك للجيش اللبناني، ولنبحث في كيفية حماية أنفسنا». ويبدي مروة أسفه لأن خصوم حزب الله يحاولون استعمال الشيعة المستقلين في المواسم التي يحتاجونهم فيها، كالانتخابات أو عند حصول مشكلات في البلد، أما عندما يريدون حل المشكل، فيذهبون إلى «حزب الله». ومع هذا كله، يرى مروة بارقة أمل «لأن وهم القوة جربته كل الطوائف اللبنانية قبل الشيعة، وكان الخاسر دوما لبنان واللبنانيين، وهذا ما سيكتشفه الشيعة آجلا أم عاجلا». مشيرًا إلى أن الحل الثاني هو «حروب أهلية لا تنتهي».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق