تعد إحدى أقدم المدن الليبية.. وتنفرد بطبيعة جغرافية خلابة
ليبيا المستقبل
الشرق الأوسط: لم يكن أهل درنة، المعروفون بسماحتهم وحبهم للثقافة والفنون والحياة، يتصورون أن مدينتهم بأحراشها وأسوارها الجبلية المنيعة، ووديانها الفيحاء وثقلها الحضاري، ستصبح لقمة سائغة في فم التنظيمات الإرهابية التي حولت ليبيا إلى مستنقع من الفوضى والاحتراب والقتل والدمار. فبين عشية وضحاها تحولت المدينة القابعة في أحضان البحر المتوسط وتلال الجبل الأخضر الشاسعة إلى معقل للمتطرفين، الذين أعلنوها «إمارة إسلامية» خارج سلطة الدولة الليبية، وفي إطار ما يسمى بـ«دولة الخلافة». ورغم تواتر الأخبار عما يجري داخل المدينة التي يطلق عليها الليبيون «عروس ليبيا»، ومن أبرزه مظاهر استعراض القوة من قبل الجماعات الإرهابية في شوارع وميادين المدينة، ودعوة سكانها للتوبة من الأفكار «التكفيرية» والانخراط في ركب دولة الخلافة الجديدة، فإن الكاتب الصحافي أحمد الفيتوري أكد لـ«الشرق الأوسط» صعوبة تحول درنة إلى إمارة إسلامية، ويعزو ذلك إلى الطبيعة الشخصية لأهلها المعروفين بانفتاحهم على الحياة وحبهم للموسيقى والفنون والآداب. ويقول الفيتوري، العائد أخيرا من بنغازي في زيارة للقاهرة «ما يروح في هذا السياق عن فكرة تحويل درنة إلى إمارة إسلامية سيظل كلاما يحتمل التصديق، لكنه في المجمل لا يشكل حقيقة نهائية». ويراهن الفيتوري على حقائق التاريخ، وطبيعة الشخصية الليبية بشكل عام وفي درنة على نحو خاص، متابعا «ستنتصر حكمة الشيوخ في درنة على كل هذه المحاولات، وهي حكمة غير قبلية، لا تعرف التعصب، وتنبذ العنف، وتتسع برحابة وسعة أفق لكل تقاطعات الحياة.. ففي درنة يمكن أن تسمع الموسيقى خاصة العزف على العود في بيوتات كثيرة، خاصة لدى العائلات العريقة، والتي تعتبر هذا المشهد جزءا أصيلا من مشهد الحياة». ولا ينفي الفيتوري الخطر المحدق بدرنة من قبل الجماعات الإرهابية المسلحة، لكنه يشير إلى أن حظوظه ستكون عسيرة، مرجحا أن يجتذب هامشا بسيطا من الشباب، تحت ضجيج الأفكار البراقة عن «دولة الخلافة الإسلامية» وتطبيق الشريعة وغيرهما من الشعارات الطنانة التي هي في جوهرها متاجرة بالدين، على حد قوله.
وعن درنة وتاريخها يقول الفيتوري «تعد درنة من أقدم المدن الليبية، فهي موجودة حتى قبل أن تنشأ مدينة بنغازي، وتنفرد بطبيعة جغرافية خاصة فهي تقبع وسط غابة من الجبال والوديان والتلال، ولها ميناء ومنفذ ساحلي على البحر المتوسط، وفي التاريخ القديم كانت ثمة ثلاث مدن رئيسة تشكل الخريطة الجغرافية في البلاد هي: طرابلس، ومصراتة، ودرنة، لكن الأخيرة تمتعت بكونها مركزا تجاريا مهما، ومحطة لتزويد القوافل التجارية بالمؤن والمياه، حيث يوجد بها العديد من العيون المائية الطبيعية العذبة التي تنبع من الجبال المحيطة بها، خاصة خلال طريق العودة من طرابلس إلى مصر». ويروي الفيتوري أنه في فترات من تاريخ درنة خاصة في فترة حكم الأسرة القرمنلية، والتي بدأت في أوائل القرن السابع عشر، كانت درنة داعما قويا لحملة نابليون بونابرت على مصر في عام 1798، وقدمت له الكثير من العتاد والزاد، ويبرر ذلك بعدم تعاطف سكان درنة مع الإنجليز في تلك الفترة. وتعد درنة مدينة جبلية تقع على ساحل البحر المتوسط في شمال شرقي ليبيا، ويحدها من الشمال البحر المتوسط، ومن الجنوب سلسلة من تلال الجبل الأخضر. ويشطر المدينة مجرى الوادي إلى شطرين، وهذا الوادي يسمى وادي درنة، وهو أحد الأودية الكبيرة المعروفة في ليبيا، وفي عام 2011 بلغ سكانها نحو 80 ألف نسمة. وتزخر المدينة بعدد من الأسواق والمراكز الترفيهية والسياحية، مما جعلها مزارا جذابا للسياح الوافدين إلى ليبيا. وبدرنة متحف أثري عريق يضم مقتنيات من العصر اليوناني وبالذات الفترة الهيلينستية، حيث أسس الإغريق أربع مدن قرب مدينة درنة التي كانت تدعى في تلك الفترة «إيراسا». وفي فترة الحكم الروماني والبيزنطي تعرضت المدينة لحالة من الركود والانحطاط ما لبثت أن تجاوزتها لتلعب دورا حيويا في الحقبة العثمانية لا سيما في أوائل القرن السابع عشر أثناء فترة حكم الأسرة القرمنلية، التي برزت خلال ما عرف باسم حرب السنوات الأربع، حيث هيمنت درنة على كل من مدينة بنغازي والمرج المدينتين الرئيستين في تلك الفترة. ظلت درنة مركزا إداريا وتجاريا مهما في فترة حكم الأسرة القرمنلية بفضل مينائها وأراضيها الزراعية الخصبة، إضافة لحركة التبادل التجاري والإداري والثقافي مع المغرب العربي والشرق الأدنى. ولم تترك فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا (1911 - 1945) آثارا ملحوظة على درنة بسبب كونها مركزا للتنقل. وأعلن تنظيم متشدد يطلق على نفسه اسم «مجلس شورى شباب الإسلام بمدينة درنة» شرق ليبيا عن تدشينه «إدارة إسلامية» خارج سلطة الدولة الليبية. ويرصد مراقبون أن من بين التنظيمات الإرهابية القوية المتمركزة في درنة تنظيم «الجبهة الإسلامية لقوات المجاهدين - درنة»، وهو أيضا يتبنى مشروع «إقامة دولة إسلامية في المنطقة الشرقية». وأخيرا يراهن الفيتوري على حقائق التاريخ والجغرافيا، ويؤكد أنه في ظل غياب الدولة سوف تتسع جرائم القتل والاغتيال والخطف سواء في بنغازي أو درنة أو غيرهما من المدن. ولا أمل سوى أن تعود الدولة بقوة بكل أركانها، لأنه لا مجال للتفاوض مع هؤلاء الإرهابيين الذين ليست لهم أي قاعدة أو سند لدى الشعب الليبي المسلم المعتدل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق