كشف أحمد قذاف الدم عن أسرار المفاوضات بين القذافي والرئيس المصري الراحل أنور السادات من أجل إنهاء الحرب المصرية - الليبية التي وقعت العام 1977.
وتحدث قذاف الدم لصحيفة «الشرق الأوسط» وتطرق إلى كثير من المواقف والأسرار والملابسات، وذلك منذ أن استضافت أسرته التلميذ معمر القذافي ابن عمه للدراسة الابتدائية والإعدادية في مدرسة سبها المركزية في جنوب ليبيا، في أواخر خمسينات القرن الماضي.
وأوضح تفاصيل عمله مع القذافي كمبعوث خاص ومنسق للعلاقات الليبية - المصرية.
بعد انتهاء حرب 1973 وبدء مفاوضات الكيلو 101، بين مصر وإسرائيل بإشراف الأمم المتحدة، للوصول إلى تحديد خطوط وقف إطلاق النار بدأت نذر الخلافات بين القذافي الذي كان عمره لا يتجاوز 31 عامًا، والرئيس السادات المخضرم في الحروب والثورات والسياسة.
وشعر القذافي أن الأمور يمكن أن تفلت، وبدا من تصرفاته أنه لا يريد أن يخسر القاهرة، وفي الوقت نفسه كان موقفه أكثر ميلاً للموقف الرافض لطريقة التفاوض الذي يتبناه الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في ذلك الوقت.
وأخذ القذافي ينتقد أولاً إجراء مفاوضات الكيلو 101 على الأرض المصرية.
وعلى الرغم من غضبه الشديد من السادات، فإنه وافق على حضور حفل تكريم الجيش المصري الذي نظمه السادات عقب الحرب بنحو أربعة أشهر، أي في فبراير العام 1974.
ويكشف قذاف الدم في هذه الحلقة كيف بدأ وكيف انتهى في مفاوضات في منزل السادات الريفي.
«على أي حال. نحن في الأيام التي أعقبت حرب تحرير سيناء، ووسط لغط في الأوساط العسكرية والسياسية، يتردد صداه على ضفة قناة السويس وبقايا خط بارليف الحصين، وينتقل عبر الأثير إلى أرجاء الدنيا، حول المفاوضات التي كانت تجري بين القاهرة وتل أبيب تحت إشراف الأمم المتحدة، وزاد من حجم المسؤولية في القرار على كل من مصر وسورية وليبيا، ارتباط هذه الدول فيما يعرف بالاتحاد الثلاثي الذي جرى التوقيع عليه منذ بداية السبعينات».
وأردف قذاف الدم: «حصلت مشاكل بعد أن تقدم الفريق سعد الدين الشاذلي باستقالته، وكان التفكير الليبي أقرب إلى تفكير الفريق الشاذلي، انحزنا له بشكل أو بآخر بحكم أنه كان الأكثر فهمًا للأمور العسكرية على الأرض، وأيضًا كنا نتابع مع الإخوة السوريين على الجبهة السورية، كنا ضد إيقاف الحرب، وضد مفاوضات الكيلو 101، كنا نرى أنه إذا كان لا بد من هذه المفاوضات فلتكن في أرض العدو، وليس على الأرض المصرية».
وأضاف «اختلفنا في مثل هذه النقاط، وبدأت حملة إعلامية شرسة في مصر ضد ليبيا، وبدأت الخلافات تأخذ شكلاً متصاعدًا، وعلى الرغم من ذلك، عندما كرم الرئيس السادات الجيش المصري بعد الحرب، بعث بمبعوث إلى طرابلس لدعوة معمر لحضور التكريم، وكان السادات يقول: على الرغم من خلافي مع معمر، وعلى الرغم من أن معمر عمل وعمل وعمل، ولكن نحن أوفياء، ولا يمكن أن ننسى ما قامت به ليبيا في هذه الحرب، ولا ينبغي أن يجري التكريم في غير حضور معمر القذافي، من جانبه اشترط القذافي على السادات أن يوجه الدعوة لحضور بعض القادة الأفارقة، وقال للسادات: أفريقيا أسهمت معنا وقامت بقطع علاقتها بإسرائيل، وأرجو، طالما أنت قمت بهذه الخطوة فإنه من باب الوفاء لأفريقيا أن ندعوها للمشاركة في الحفل. ورحب السادات بالفكرة وجاء رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية موبوتو سيسيسيكو وحضر معنا التكريم الذي جرت وقائعه في مقر مجلس الشعب المصري».
وقال قذاف الدم: «العلاقة لم تعد بين القذافي والسادات إلى الدرجة نفسها ولا إلى الروح نفسها التي كانت عليها، من الثقة والود، قبل مفاوضات الكيلو 101، ومع ذلك كان القذافي مصرًا على الاستمرار في الاتحاد الثلاثي بين مصر وليبيا وسورية، وكان مصرًا أيضًا على التعجيل بهذا العمل المشترك، وكان يقول، وفقًا لقذاف الدم: كيف نستفتي الناس على الاتحاد ثم نتركهم، لا أحد يجوز له إلغاء هذا الاتحاد إلا باستفتاء».
وكان قد جرى تخصيص القصر الرئاسي المصري المعروف حتى اليوم باسم «قصر الاتحادية» كمقر للاتحاد الثلاثي وللبرلمان الاتحادي.
وتابع قذاف الدم: «كنا أنشأنا مجموعة مؤسسات للاتحاد الثلاثي في قصر الاتحادية، ولهذا السبب أطلق عليه هذا الاسم، أما الفقرة التي تنص على عدم إلغاء الاتحاد إلا باستفتاء فقد وضعها معمر القذافي، وما زال هذا الاتحاد قائمًا (نظريًا) حتى هذه الساعة، ومن الناحية الدستورية يستمر قائمًا ما لم يجر استفتاء الناس على إلغائه، وكانوا يخشون من أنه لو جرى استفتاء سيجري رفض الانفصال وقتها».
ورأى قذاف الدم «إن القذافي كان يريد أن يجري زواج سياسي أكثر من أي شيء آخر، بين البلدين على ما أعتقد، هو كان يريد زواجًا سياسيًا لكي يكسر هذا الحاجز الذي تكون بعد ملابسات حرب 1973، وأن نقترب من بعض أكثر لأن حالة الشك بدأت تسود، ويسود الظن بأن معمر كان لديه موقف من الرئيس السادات، وأن معمر يقوم بتخوين السادات وهكذا».
وقال قذاف الدم: «نحن كنا شبابًا بطبيعة الحال، وسورية ظلت خارج هذا الإطار، فحدثت خلخلة في الإجماع العربي، فكانت في الحقيقة مرحلة صعبة في العلاقات بين ليبيا ومصر، وأنا الحقيقة لم أنقطع عن مصر، كنت أتواصل وألتقي الرئيس السادات من آن إلى آن، سواء في القاهرة أو خارجها».
- وبعد ذلك بثلاث سنوات، ومع اقتراب مصر من توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وقعت مناوشات عسكرية على الحدود المصرية - الليبية العام 1977، كان لها كثير من التداعيات والتفسيرات، لكن يبدو أن السبب الرئيس كان الشحن والتوتر وتبادل الاتهامات، فالمصريون يتهمون القذافي بأنه كان يجهز لضرب السد العالي وتنفيذ تفجيرات داخل البلاد وتحريض المصريين ضد السادات، بينما كان لليبيين فهم مختلف يتعلق بوجود مؤامرة غربية ضدهم، ولعب قذاف الدم دورًا في المفاوضات التي حدثت في بيت السادات بمنطقة ميت أبو الكوم، لكن كيف بدأت الأحداث بالضبط وإلى أين وصلت وكيف انتهت، كما رآها وتابعها قذاف الدم؟
أجاب قذاف الدم لـ «الشرق الأوسط»: «أعتقد أنه كان هناك مخطط لترحيل الجيش المصري من المنطقة الشرقية إلى المنطقة الغربية، لأن المساحة ضاقت وأصبح الجيش يشكل خطرًا حتى على القاهرة، فكان لا بد من إيجاد مبرر لنقله إلى الصحراء الغربية، فافتعلت مصر هذه المشكلة، وهذه القصة».
وقال قذاف الدم عما تردد في ذلك الوقت: «إن القذافي يريد أن يأتي بحشود شعبية من ليبيا للضغط على القاهرة حتى لا توقع معاهدة مع إسرائيل «المهم كانت هناك رغبة في خلق مبررات حتى لو كانت واهية. ولم تكن منطقية في نهاية المطاف. وقد يكون جزءًا منها هو المعلومات المضللة التي كانت تأتي للرئيس السادات لتدمير ما تبقى من الجيش المصري من خلال توريطه في حرب في ليبيا، أنا لا أستبعد أن الأميركيين والغرب كانوا يعطون معلومات غير صحيحة للسادات تقول إن معمر سيدمر السد العالي ويريد أن يحارب مصر أو يغزو مصر. ومثل هذا الكلام لا أساس له. معمر رجل وحدوي ورجل قومي، ولا يمكن أن يحارب الجيش الذي بناه عبدالناصر ولا يمكن أن يهدم السد العالي الذي بناه عبدالناصر».
وأوضح قذاف الدم الذي كان في بريطانيا عندما بدأت المواجهات بين الجيش المصري والليبي، يستكمل دراساته العسكرية هناك «سمعت بالأحداث التي تجري على الحدود. وجرى استدعائي، ورجعت إلى ليبيا، وطلبت أن أنتقل إلى طبرق، لأن الموضوع بالنسبة لي كان خارج دائرة التصديق، أفكر في أن الجيش المصري على الحدود الليبية، الحقيقة مسألة بالنسبة لنا كانت صدمة مهما كانت الخلافات، وذهبت مع زملائي واستطلعنا الحدود، ورأينا فعلاً أن القوات المصرية هناك وبعض منها داخل حتى الأراضي الليبية، وحدات استطلاع. ورجعنا، وبدأنا اتصالات مع الرئيس السادات ومع آخرين من المصريين، وأنا كنت طرفًا في هذه الاتصالات».
وسألت الصحيفة قذاف الدم عما إذا اتصل بالسادات شخصيًا حول مشكلة الحشد العسكري على الحدود فقال: «نعم» موضحًا رد فعله «والله هو كان معبأ. ويرى أن ليبيا، وأن معمر يريد أن يغزو مصر. وتحدثنا مع السادات في الهاتف في المرات الأولى. ثم توصلنا من خلال اللقاءات المستمرة والسرية طبعًا، مع أجهزة المخابرات المصرية، ومع قوات الاستطلاع المصري، إلى امتصاص هذه المرحلة. والحقيقة لعب الرئيس الجزائري هواري بومدين والفلسطيني عرفات، دورًا مهمًا في توضيح هذه الصورة للسادات».
وتابع قذاف الدم: «جرت لقاءات مباشرة سرية كثيرة، في مصر وفي باريس وفي المغرب وفي أكثر من مكان. لكن كيف انتهى موضوع المواجهات العسكرية بين البلدين؟ يجيب قذاف الدم قائلاً: «إن أهم لقاء أدى لحسم هذه القصة وأنهاها نهائيًا، كان من خلال لقاء مباشر وليس بالهاتف مع الرئيس السادات، الذي وجدته في الحقيقة رجلاً قرويًا وثوريًا في الوقت نفسه. «أقصد أنه كانت توجد لغة مشتركة بيننا على الرغم من الخلاف». وفي ذلك الوقت، وعلى الرغم من ما هو ظاهر من العداء بين معمر القذافي والسادات، إلا أن هذا لم يكن هو الواقع، معمر كان لديه احترام للسادات، وتاريخه ومواقفه، وأيضًا الرئيس السادات كان يقول معمر هذا ابني».
وأضاف قذاف الدم قائلاً: «حتى حين كنت أزور السادات في بيته الريفي في ميت أبو الكوم، كان يقول لي إن هذه النخلة أتى بها القذافي وهذه الشجرة زرعها القذافي والشاي الأخضر علمه لي معمر القذافي. والشوربة المغربية علمها لي القذافي، مشيرًا إلى أن السادات كان يحب الشوربة الليبية كثيرًا. «أنا أعني إجمالاً أنه كان هناك نوع من الود، وكان يهدأ قليلاً ثم يبدأ في توجيه اللوم للقذافي وأنا جالس معه في بيته، ويقول: كيف معمر يعمل هذا، في إشارة إلى ما كان يشاع عن عزم ليبيا غزو مصر وضرب السد العالي، كما قال السادات أيضًا إن معمر عاوز يستولي على الأراضي المصرية لغاية العامرية (غرب الإسكندرية)».
وأشارت الشرق الأوسط «كان قذاف الدم يريد أن يصل إلى نتائج تنهي حالة الاحتقان على الحدود بين البلدين سريعًا، ويقول إنه كان لا بد من الحديث صراحة مع السادات، لأنه كان مصممًا ولا يريد أن يقتنع بما أقوله له عن وجود مؤامرات غربية لتوريط الجيش المصري في ليبيا، وإبعاده عن سيناء وعن إسرائيل.
وقال قذاف الدم: «هنا طرحت على الرئيس في بيته بميت أبو الكوم أيضًا، تفاصيل الخطة التي حصلنا على معلومات بشأنها بواسطة أجهزة الاستخبارات الليبية، وتهدف لغزو مصر لليبيا من الشرق وغزو تونس لليبيا من الشمال، على أن يتصدى الأسطول الأميركي في البحر المتوسط لأي محاولة للتدخل من جانب الاتحاد السوفياتي، لكن السادات أشعل غليونه ودار حول نفسه ثم أخذ يتطلع إلى الأشجار والنخيل من حوله، وظننت أنه سيتفهم ما قلته له، لكن فجأة نفث دخان الغليون، وعاد سيرته الأولى، وهو غاضب أكثر من الأول: لا أنتم لديكم صواريخ في الجغبوب (قرب حدود مصر) تريد أن تدمر السد العالي، وأخذ يشير إلى خرائط مصورة بالأقمار الصناعية التي بدا أنها أميركية، فقلت له: «تعني أن الخرائط تقول إنه توجد صواريخ في الجغبوب. حسنًا أستطيع أن أذهب الآن أنا وعسكريون مصريون بطائرة عمودية إلى هذا المكان لترى أنه لا يوجد فيه مثل هذا الكلام».
وتابع متحدثًا عن السادات الذي كان مغتاظًا بشكل كبير ثم بدأ يجنح ناحية الهدوء فقال له ويظن أنه فاجأه بحس «الشرق الأوسط»: «أنتم سيادة الرئيس مَنْ لديكم مخطط ضد ليبيا». وعرضت عليه المخطط الأميركي لضرب ليبيا، يقول قذاف الدم، فقال لي السادات: «هذا كلام غير صحيح»، وأخذ يحدق مجددًا في خرائط الأقمار الصناعية التي كانت أمامه. فأخرجت أوراقًا تثبت صحة كلامي، وقلت له: «لا إنه كلام صحيح سيادة الرئيس. وهذه المعلومات من داخل الولايات المتحدة الأميركية، وحصلت عليها المخابرات الليبية».
وأضاف: «على الجانب الآخر كان كل من الرئيس الجزائري، بومدين والفلسطيني عرفات، قد عملا على إنهاء حالة التوتر مع مصر، لكن على الرغم من ذلك استمرت حشود الجيش المصري على الحدود فيما بعد. ويقول قذاف الدم: نسيت أن أذكر لك أن زيارتي للسادات في ميت أبو الكوم لم تكن بعلم القذافي ولم أستأذنه فيها. المهم أنه بعد نقاش طويل عريض، قلت للسادات: «شوف أنا جئت دون إذن. إما أن نصل إلى حل، أو احجز لي مكانًا عندك لكي أمكث في مصر، لأن القذافي لا يعلم بهذه الزيارة ولم آخذ إذنه، ولا أستطيع أن أعود إليه بعد هذا دون نتيجة مريحة».
وأشار قذاف الدم: «فسألني السادات وقد بدا أنه متعاطف معي: ماذا تريد؟ فأجبته إجابة مطولة: أريد أن تأخذ خطوة. وكان يستمع حين قاطعني ليأمر بتحضير طعام الغداء، على أن تكون الشوربة المغربية على السفرة. واستكملت حديثي وقلت له: سيادة الرئيس. أنا جئت لأؤكد أننا في ليبيا ليست لدينا أي أمور عدائية تجاهكم. بينما أنتم جئتم بقواتكم على حدودنا. اسحب على الأقل جزءًا من هذه القوات، وبرهن على حسن النوايا. واعطنا أسبوعًا. إذا لم يأت رد من ليبيا في خلال الأسبوع، أعد القوات مرة أخرى. فقال لي: خلاص. سأسحب لمدة أسبوع».
ونوه قذاف الدم: «شعرت مرة أخرى، وأنا أتطلع إلى الأجواء الريفية المحيطة ببيته، أن الرئيس السادات إنسان بسيط ومتواضع. على أية حال قدم الشوربة وكان هناك بط أيضًا. وفي آخر النهار أكلنا فطير مشلتت (نوع من المخبوزات في الريف المصري). لقد بدأ اللقاء عاصفًا وانتهى بعد ساعات طويلة بتفاهم. وكان الرجل ودودًا، لكن كانت لديه همومه ومخاوفه تجاه بلده ويريد أن يستعيد سيناء بعد أن تخلى عنه الجميع».
وعرض قذاف الدم بالتفصيل معلومات المخابرات الليبية التي قال لـ«الشرق الأوسط»: «إنها موثقة وجاءت بها من أميركا والتي تشير إلى أن هذا المخطط ضد ليبيا بدأ منذ أواخر السبعينات عندما دخلت قواتنا إلى تشاد ووصلت لمشارف العاصمة إنجمينا».
وقال: «الخطة تقضي بجر مصر وتونس للتدخل في ليبيا بمساعدة أميركية وفرنسية، لإسقاط النظام في ليبيا حين كانت معظم القوات الليبية تحارب في تشاد. من تونس تدخل القوات الفرنسية وتستولي على طرابلس بزعم أن ليبيا تريد أن تهاجم تونس. وتتولى مصر الدخول من الغرب حتى بنغازي للسيطرة عليها، ثم يقوم الأسطولان السادس والسابع بمحاصرة شواطئنا من الشمال حتى لا يتحرك الاتحاد السوفياتي لنجدة القوات الليبية».
وأوضح أنه بعد انتهاء زيارته لبيت السادات، انطلق عائدًا إلى ليبيا وقال ذهبت للقذافي الذي كان وقتها موجودًا في خيمة في منطقة الكُفرة الحدودية، وقلت له «إنني كنت عند السادات. طبعًا فوجئ، وقال لي: لماذا لم تستأذني؟ فقلت له لو كنت قد استأذنتك لقلت لي لا تذهب، ولقلت لي إنه اتفق مع الأميركان وأصبحوا جبهة واحدة. فسألني: لماذا اخترت الذهاب للسادات؟
فأجبته: لأنه الحلقة الأضعف. رجل من طينتنا ولديه نفس مشاعرنا ورجل ثوري وعاش معنا ويعرفنا جيدًا. أما الغرب فهو عدو يريد أن يقتص منا. وبالنسبة لتونس، إذا أقنعهم الفرنسيون أن معمر يريد أن يهجم عليهم، فسيطلبون بشكل آلي الحماية الفرنسية. وحكيت له ما حدث في بيت ميت أبو الكوم بالتفصيل، ووجد أنني متأثر بكلام السادات، وأعتقد أنه قال بينه وبين نفسه إن السادات «أكل بعقله حلاوة»، كما يقول المصريون، خاصة أنني كنت شابًا صغيرًا. ولم يكن القذافي مقتنعًا بكل ما حدث، أو بالأحرى كان مترددًا، قال: خلاص. لكن الكلام الذي سمعته من السادات لا يوثق فيه. هذه مناورة منه وضحك عليك، وقال لك إنه سيسحب القوات، ولن يسحبها.
وبينما شعر قذاف الدم أن جهوده مع السادات ذهبت هباء، وأن الأمور تزداد تعقيدًا، وجد الفرج وكأنه هبط عليه من حيث لا يدري. يقول: تشاء الظروف في تلك اللحظة، ونحن نهم بالخروج من الخيمة، أن يأتي قلم القائد (سكرتير القذافي) حاملاً الملفات والبرقيات والبريد، وهنا ابتعدت عن القذافي، على أساس أن أتركه يفحص ما لديه من أوراق، لكنه أخذ ينادي علي، وحين اقتربت قال: تعال هنا. تعال. يبدو أن صاحبك جاد، في إشارة إلى السادات، لأنه لم يكن يريد للسكرتير، أو غيره، أن يعرف أنني كنت عند الرئيس المصري.
ومد لي برقية واردة من استطلاع الجيش الليبي، تقول إن بعض الوحدات المصرية انسحبت من الجبهة. فقلت للقذافي وقد شعرت بعودة النبض إلى عروقي: خلاص. إذن الكرة أصبحت في ملعبنا نحن، وعلينا أن نتخذ الخطوة التالية، فوافق، وأعلن في خطاب عام أنه لن يحارب جيش عبدالناصر ولن يدمر السد العالي. وقال أيضًا: لا بد أن نحول هذه المنطقة إلى منطقة رخاء وتعاون بين البلدين وأنه مهما كانت خلافاتنا سياسية فلا يجب أن نصل لدرجة تجييش جيوشنا وقدراتنا لمصلحة الغرب».
وأضاف قذاف الدم «أن الإجراءات العملية لإنهاء التوتر العسكري على الحدود المصرية الليبية استمرت بعد ذلك حيث أكمل السادات سحب باقي قواته، وقام قادة من الجيش الليبي بعقد اجتماعات مع كل من الجيش المصري والمخابرات المصرية، وأصبح يطلق عليها لسنوات اجتماعات الحدود وتهدف للتعاون المشترك لتأمين المنطقة بدلاً عن الصراع فيها».
واختتم قذاف الدم روايته لـ«الشرق الأوسط»: «حاول الغرب إحياء المخطط نفسه مع الرئيس حسني مبارك، في تسعينات القرن الماضي، وجاء لهذا الغرض، للقاهرة، رئيس الأركان الأميركي، ومعه المخططون من المخابرات الأميركية، إلا أن مبارك أبلغنا بهذا الموضوع، ورفض أن تشترك مصر في المؤامرة ضد ليبيا».
وتحدث قذاف الدم لصحيفة «الشرق الأوسط» وتطرق إلى كثير من المواقف والأسرار والملابسات، وذلك منذ أن استضافت أسرته التلميذ معمر القذافي ابن عمه للدراسة الابتدائية والإعدادية في مدرسة سبها المركزية في جنوب ليبيا، في أواخر خمسينات القرن الماضي.
وأوضح تفاصيل عمله مع القذافي كمبعوث خاص ومنسق للعلاقات الليبية - المصرية.
بعد انتهاء حرب 1973 وبدء مفاوضات الكيلو 101، بين مصر وإسرائيل بإشراف الأمم المتحدة، للوصول إلى تحديد خطوط وقف إطلاق النار بدأت نذر الخلافات بين القذافي الذي كان عمره لا يتجاوز 31 عامًا، والرئيس السادات المخضرم في الحروب والثورات والسياسة.
وشعر القذافي أن الأمور يمكن أن تفلت، وبدا من تصرفاته أنه لا يريد أن يخسر القاهرة، وفي الوقت نفسه كان موقفه أكثر ميلاً للموقف الرافض لطريقة التفاوض الذي يتبناه الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في ذلك الوقت.
وأخذ القذافي ينتقد أولاً إجراء مفاوضات الكيلو 101 على الأرض المصرية.
وعلى الرغم من غضبه الشديد من السادات، فإنه وافق على حضور حفل تكريم الجيش المصري الذي نظمه السادات عقب الحرب بنحو أربعة أشهر، أي في فبراير العام 1974.
ويكشف قذاف الدم في هذه الحلقة كيف بدأ وكيف انتهى في مفاوضات في منزل السادات الريفي.
«على أي حال. نحن في الأيام التي أعقبت حرب تحرير سيناء، ووسط لغط في الأوساط العسكرية والسياسية، يتردد صداه على ضفة قناة السويس وبقايا خط بارليف الحصين، وينتقل عبر الأثير إلى أرجاء الدنيا، حول المفاوضات التي كانت تجري بين القاهرة وتل أبيب تحت إشراف الأمم المتحدة، وزاد من حجم المسؤولية في القرار على كل من مصر وسورية وليبيا، ارتباط هذه الدول فيما يعرف بالاتحاد الثلاثي الذي جرى التوقيع عليه منذ بداية السبعينات».
وأردف قذاف الدم: «حصلت مشاكل بعد أن تقدم الفريق سعد الدين الشاذلي باستقالته، وكان التفكير الليبي أقرب إلى تفكير الفريق الشاذلي، انحزنا له بشكل أو بآخر بحكم أنه كان الأكثر فهمًا للأمور العسكرية على الأرض، وأيضًا كنا نتابع مع الإخوة السوريين على الجبهة السورية، كنا ضد إيقاف الحرب، وضد مفاوضات الكيلو 101، كنا نرى أنه إذا كان لا بد من هذه المفاوضات فلتكن في أرض العدو، وليس على الأرض المصرية».
وأضاف «اختلفنا في مثل هذه النقاط، وبدأت حملة إعلامية شرسة في مصر ضد ليبيا، وبدأت الخلافات تأخذ شكلاً متصاعدًا، وعلى الرغم من ذلك، عندما كرم الرئيس السادات الجيش المصري بعد الحرب، بعث بمبعوث إلى طرابلس لدعوة معمر لحضور التكريم، وكان السادات يقول: على الرغم من خلافي مع معمر، وعلى الرغم من أن معمر عمل وعمل وعمل، ولكن نحن أوفياء، ولا يمكن أن ننسى ما قامت به ليبيا في هذه الحرب، ولا ينبغي أن يجري التكريم في غير حضور معمر القذافي، من جانبه اشترط القذافي على السادات أن يوجه الدعوة لحضور بعض القادة الأفارقة، وقال للسادات: أفريقيا أسهمت معنا وقامت بقطع علاقتها بإسرائيل، وأرجو، طالما أنت قمت بهذه الخطوة فإنه من باب الوفاء لأفريقيا أن ندعوها للمشاركة في الحفل. ورحب السادات بالفكرة وجاء رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية موبوتو سيسيسيكو وحضر معنا التكريم الذي جرت وقائعه في مقر مجلس الشعب المصري».
وقال قذاف الدم: «العلاقة لم تعد بين القذافي والسادات إلى الدرجة نفسها ولا إلى الروح نفسها التي كانت عليها، من الثقة والود، قبل مفاوضات الكيلو 101، ومع ذلك كان القذافي مصرًا على الاستمرار في الاتحاد الثلاثي بين مصر وليبيا وسورية، وكان مصرًا أيضًا على التعجيل بهذا العمل المشترك، وكان يقول، وفقًا لقذاف الدم: كيف نستفتي الناس على الاتحاد ثم نتركهم، لا أحد يجوز له إلغاء هذا الاتحاد إلا باستفتاء».
وكان قد جرى تخصيص القصر الرئاسي المصري المعروف حتى اليوم باسم «قصر الاتحادية» كمقر للاتحاد الثلاثي وللبرلمان الاتحادي.
وتابع قذاف الدم: «كنا أنشأنا مجموعة مؤسسات للاتحاد الثلاثي في قصر الاتحادية، ولهذا السبب أطلق عليه هذا الاسم، أما الفقرة التي تنص على عدم إلغاء الاتحاد إلا باستفتاء فقد وضعها معمر القذافي، وما زال هذا الاتحاد قائمًا (نظريًا) حتى هذه الساعة، ومن الناحية الدستورية يستمر قائمًا ما لم يجر استفتاء الناس على إلغائه، وكانوا يخشون من أنه لو جرى استفتاء سيجري رفض الانفصال وقتها».
ورأى قذاف الدم «إن القذافي كان يريد أن يجري زواج سياسي أكثر من أي شيء آخر، بين البلدين على ما أعتقد، هو كان يريد زواجًا سياسيًا لكي يكسر هذا الحاجز الذي تكون بعد ملابسات حرب 1973، وأن نقترب من بعض أكثر لأن حالة الشك بدأت تسود، ويسود الظن بأن معمر كان لديه موقف من الرئيس السادات، وأن معمر يقوم بتخوين السادات وهكذا».
وقال قذاف الدم: «نحن كنا شبابًا بطبيعة الحال، وسورية ظلت خارج هذا الإطار، فحدثت خلخلة في الإجماع العربي، فكانت في الحقيقة مرحلة صعبة في العلاقات بين ليبيا ومصر، وأنا الحقيقة لم أنقطع عن مصر، كنت أتواصل وألتقي الرئيس السادات من آن إلى آن، سواء في القاهرة أو خارجها».
- وبعد ذلك بثلاث سنوات، ومع اقتراب مصر من توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وقعت مناوشات عسكرية على الحدود المصرية - الليبية العام 1977، كان لها كثير من التداعيات والتفسيرات، لكن يبدو أن السبب الرئيس كان الشحن والتوتر وتبادل الاتهامات، فالمصريون يتهمون القذافي بأنه كان يجهز لضرب السد العالي وتنفيذ تفجيرات داخل البلاد وتحريض المصريين ضد السادات، بينما كان لليبيين فهم مختلف يتعلق بوجود مؤامرة غربية ضدهم، ولعب قذاف الدم دورًا في المفاوضات التي حدثت في بيت السادات بمنطقة ميت أبو الكوم، لكن كيف بدأت الأحداث بالضبط وإلى أين وصلت وكيف انتهت، كما رآها وتابعها قذاف الدم؟
أجاب قذاف الدم لـ «الشرق الأوسط»: «أعتقد أنه كان هناك مخطط لترحيل الجيش المصري من المنطقة الشرقية إلى المنطقة الغربية، لأن المساحة ضاقت وأصبح الجيش يشكل خطرًا حتى على القاهرة، فكان لا بد من إيجاد مبرر لنقله إلى الصحراء الغربية، فافتعلت مصر هذه المشكلة، وهذه القصة».
وقال قذاف الدم عما تردد في ذلك الوقت: «إن القذافي يريد أن يأتي بحشود شعبية من ليبيا للضغط على القاهرة حتى لا توقع معاهدة مع إسرائيل «المهم كانت هناك رغبة في خلق مبررات حتى لو كانت واهية. ولم تكن منطقية في نهاية المطاف. وقد يكون جزءًا منها هو المعلومات المضللة التي كانت تأتي للرئيس السادات لتدمير ما تبقى من الجيش المصري من خلال توريطه في حرب في ليبيا، أنا لا أستبعد أن الأميركيين والغرب كانوا يعطون معلومات غير صحيحة للسادات تقول إن معمر سيدمر السد العالي ويريد أن يحارب مصر أو يغزو مصر. ومثل هذا الكلام لا أساس له. معمر رجل وحدوي ورجل قومي، ولا يمكن أن يحارب الجيش الذي بناه عبدالناصر ولا يمكن أن يهدم السد العالي الذي بناه عبدالناصر».
وأوضح قذاف الدم الذي كان في بريطانيا عندما بدأت المواجهات بين الجيش المصري والليبي، يستكمل دراساته العسكرية هناك «سمعت بالأحداث التي تجري على الحدود. وجرى استدعائي، ورجعت إلى ليبيا، وطلبت أن أنتقل إلى طبرق، لأن الموضوع بالنسبة لي كان خارج دائرة التصديق، أفكر في أن الجيش المصري على الحدود الليبية، الحقيقة مسألة بالنسبة لنا كانت صدمة مهما كانت الخلافات، وذهبت مع زملائي واستطلعنا الحدود، ورأينا فعلاً أن القوات المصرية هناك وبعض منها داخل حتى الأراضي الليبية، وحدات استطلاع. ورجعنا، وبدأنا اتصالات مع الرئيس السادات ومع آخرين من المصريين، وأنا كنت طرفًا في هذه الاتصالات».
وسألت الصحيفة قذاف الدم عما إذا اتصل بالسادات شخصيًا حول مشكلة الحشد العسكري على الحدود فقال: «نعم» موضحًا رد فعله «والله هو كان معبأ. ويرى أن ليبيا، وأن معمر يريد أن يغزو مصر. وتحدثنا مع السادات في الهاتف في المرات الأولى. ثم توصلنا من خلال اللقاءات المستمرة والسرية طبعًا، مع أجهزة المخابرات المصرية، ومع قوات الاستطلاع المصري، إلى امتصاص هذه المرحلة. والحقيقة لعب الرئيس الجزائري هواري بومدين والفلسطيني عرفات، دورًا مهمًا في توضيح هذه الصورة للسادات».
وتابع قذاف الدم: «جرت لقاءات مباشرة سرية كثيرة، في مصر وفي باريس وفي المغرب وفي أكثر من مكان. لكن كيف انتهى موضوع المواجهات العسكرية بين البلدين؟ يجيب قذاف الدم قائلاً: «إن أهم لقاء أدى لحسم هذه القصة وأنهاها نهائيًا، كان من خلال لقاء مباشر وليس بالهاتف مع الرئيس السادات، الذي وجدته في الحقيقة رجلاً قرويًا وثوريًا في الوقت نفسه. «أقصد أنه كانت توجد لغة مشتركة بيننا على الرغم من الخلاف». وفي ذلك الوقت، وعلى الرغم من ما هو ظاهر من العداء بين معمر القذافي والسادات، إلا أن هذا لم يكن هو الواقع، معمر كان لديه احترام للسادات، وتاريخه ومواقفه، وأيضًا الرئيس السادات كان يقول معمر هذا ابني».
وأضاف قذاف الدم قائلاً: «حتى حين كنت أزور السادات في بيته الريفي في ميت أبو الكوم، كان يقول لي إن هذه النخلة أتى بها القذافي وهذه الشجرة زرعها القذافي والشاي الأخضر علمه لي معمر القذافي. والشوربة المغربية علمها لي القذافي، مشيرًا إلى أن السادات كان يحب الشوربة الليبية كثيرًا. «أنا أعني إجمالاً أنه كان هناك نوع من الود، وكان يهدأ قليلاً ثم يبدأ في توجيه اللوم للقذافي وأنا جالس معه في بيته، ويقول: كيف معمر يعمل هذا، في إشارة إلى ما كان يشاع عن عزم ليبيا غزو مصر وضرب السد العالي، كما قال السادات أيضًا إن معمر عاوز يستولي على الأراضي المصرية لغاية العامرية (غرب الإسكندرية)».
وأشارت الشرق الأوسط «كان قذاف الدم يريد أن يصل إلى نتائج تنهي حالة الاحتقان على الحدود بين البلدين سريعًا، ويقول إنه كان لا بد من الحديث صراحة مع السادات، لأنه كان مصممًا ولا يريد أن يقتنع بما أقوله له عن وجود مؤامرات غربية لتوريط الجيش المصري في ليبيا، وإبعاده عن سيناء وعن إسرائيل.
وقال قذاف الدم: «هنا طرحت على الرئيس في بيته بميت أبو الكوم أيضًا، تفاصيل الخطة التي حصلنا على معلومات بشأنها بواسطة أجهزة الاستخبارات الليبية، وتهدف لغزو مصر لليبيا من الشرق وغزو تونس لليبيا من الشمال، على أن يتصدى الأسطول الأميركي في البحر المتوسط لأي محاولة للتدخل من جانب الاتحاد السوفياتي، لكن السادات أشعل غليونه ودار حول نفسه ثم أخذ يتطلع إلى الأشجار والنخيل من حوله، وظننت أنه سيتفهم ما قلته له، لكن فجأة نفث دخان الغليون، وعاد سيرته الأولى، وهو غاضب أكثر من الأول: لا أنتم لديكم صواريخ في الجغبوب (قرب حدود مصر) تريد أن تدمر السد العالي، وأخذ يشير إلى خرائط مصورة بالأقمار الصناعية التي بدا أنها أميركية، فقلت له: «تعني أن الخرائط تقول إنه توجد صواريخ في الجغبوب. حسنًا أستطيع أن أذهب الآن أنا وعسكريون مصريون بطائرة عمودية إلى هذا المكان لترى أنه لا يوجد فيه مثل هذا الكلام».
وتابع متحدثًا عن السادات الذي كان مغتاظًا بشكل كبير ثم بدأ يجنح ناحية الهدوء فقال له ويظن أنه فاجأه بحس «الشرق الأوسط»: «أنتم سيادة الرئيس مَنْ لديكم مخطط ضد ليبيا». وعرضت عليه المخطط الأميركي لضرب ليبيا، يقول قذاف الدم، فقال لي السادات: «هذا كلام غير صحيح»، وأخذ يحدق مجددًا في خرائط الأقمار الصناعية التي كانت أمامه. فأخرجت أوراقًا تثبت صحة كلامي، وقلت له: «لا إنه كلام صحيح سيادة الرئيس. وهذه المعلومات من داخل الولايات المتحدة الأميركية، وحصلت عليها المخابرات الليبية».
وأضاف: «على الجانب الآخر كان كل من الرئيس الجزائري، بومدين والفلسطيني عرفات، قد عملا على إنهاء حالة التوتر مع مصر، لكن على الرغم من ذلك استمرت حشود الجيش المصري على الحدود فيما بعد. ويقول قذاف الدم: نسيت أن أذكر لك أن زيارتي للسادات في ميت أبو الكوم لم تكن بعلم القذافي ولم أستأذنه فيها. المهم أنه بعد نقاش طويل عريض، قلت للسادات: «شوف أنا جئت دون إذن. إما أن نصل إلى حل، أو احجز لي مكانًا عندك لكي أمكث في مصر، لأن القذافي لا يعلم بهذه الزيارة ولم آخذ إذنه، ولا أستطيع أن أعود إليه بعد هذا دون نتيجة مريحة».
وأشار قذاف الدم: «فسألني السادات وقد بدا أنه متعاطف معي: ماذا تريد؟ فأجبته إجابة مطولة: أريد أن تأخذ خطوة. وكان يستمع حين قاطعني ليأمر بتحضير طعام الغداء، على أن تكون الشوربة المغربية على السفرة. واستكملت حديثي وقلت له: سيادة الرئيس. أنا جئت لأؤكد أننا في ليبيا ليست لدينا أي أمور عدائية تجاهكم. بينما أنتم جئتم بقواتكم على حدودنا. اسحب على الأقل جزءًا من هذه القوات، وبرهن على حسن النوايا. واعطنا أسبوعًا. إذا لم يأت رد من ليبيا في خلال الأسبوع، أعد القوات مرة أخرى. فقال لي: خلاص. سأسحب لمدة أسبوع».
ونوه قذاف الدم: «شعرت مرة أخرى، وأنا أتطلع إلى الأجواء الريفية المحيطة ببيته، أن الرئيس السادات إنسان بسيط ومتواضع. على أية حال قدم الشوربة وكان هناك بط أيضًا. وفي آخر النهار أكلنا فطير مشلتت (نوع من المخبوزات في الريف المصري). لقد بدأ اللقاء عاصفًا وانتهى بعد ساعات طويلة بتفاهم. وكان الرجل ودودًا، لكن كانت لديه همومه ومخاوفه تجاه بلده ويريد أن يستعيد سيناء بعد أن تخلى عنه الجميع».
وعرض قذاف الدم بالتفصيل معلومات المخابرات الليبية التي قال لـ«الشرق الأوسط»: «إنها موثقة وجاءت بها من أميركا والتي تشير إلى أن هذا المخطط ضد ليبيا بدأ منذ أواخر السبعينات عندما دخلت قواتنا إلى تشاد ووصلت لمشارف العاصمة إنجمينا».
وقال: «الخطة تقضي بجر مصر وتونس للتدخل في ليبيا بمساعدة أميركية وفرنسية، لإسقاط النظام في ليبيا حين كانت معظم القوات الليبية تحارب في تشاد. من تونس تدخل القوات الفرنسية وتستولي على طرابلس بزعم أن ليبيا تريد أن تهاجم تونس. وتتولى مصر الدخول من الغرب حتى بنغازي للسيطرة عليها، ثم يقوم الأسطولان السادس والسابع بمحاصرة شواطئنا من الشمال حتى لا يتحرك الاتحاد السوفياتي لنجدة القوات الليبية».
وأوضح أنه بعد انتهاء زيارته لبيت السادات، انطلق عائدًا إلى ليبيا وقال ذهبت للقذافي الذي كان وقتها موجودًا في خيمة في منطقة الكُفرة الحدودية، وقلت له «إنني كنت عند السادات. طبعًا فوجئ، وقال لي: لماذا لم تستأذني؟ فقلت له لو كنت قد استأذنتك لقلت لي لا تذهب، ولقلت لي إنه اتفق مع الأميركان وأصبحوا جبهة واحدة. فسألني: لماذا اخترت الذهاب للسادات؟
فأجبته: لأنه الحلقة الأضعف. رجل من طينتنا ولديه نفس مشاعرنا ورجل ثوري وعاش معنا ويعرفنا جيدًا. أما الغرب فهو عدو يريد أن يقتص منا. وبالنسبة لتونس، إذا أقنعهم الفرنسيون أن معمر يريد أن يهجم عليهم، فسيطلبون بشكل آلي الحماية الفرنسية. وحكيت له ما حدث في بيت ميت أبو الكوم بالتفصيل، ووجد أنني متأثر بكلام السادات، وأعتقد أنه قال بينه وبين نفسه إن السادات «أكل بعقله حلاوة»، كما يقول المصريون، خاصة أنني كنت شابًا صغيرًا. ولم يكن القذافي مقتنعًا بكل ما حدث، أو بالأحرى كان مترددًا، قال: خلاص. لكن الكلام الذي سمعته من السادات لا يوثق فيه. هذه مناورة منه وضحك عليك، وقال لك إنه سيسحب القوات، ولن يسحبها.
وبينما شعر قذاف الدم أن جهوده مع السادات ذهبت هباء، وأن الأمور تزداد تعقيدًا، وجد الفرج وكأنه هبط عليه من حيث لا يدري. يقول: تشاء الظروف في تلك اللحظة، ونحن نهم بالخروج من الخيمة، أن يأتي قلم القائد (سكرتير القذافي) حاملاً الملفات والبرقيات والبريد، وهنا ابتعدت عن القذافي، على أساس أن أتركه يفحص ما لديه من أوراق، لكنه أخذ ينادي علي، وحين اقتربت قال: تعال هنا. تعال. يبدو أن صاحبك جاد، في إشارة إلى السادات، لأنه لم يكن يريد للسكرتير، أو غيره، أن يعرف أنني كنت عند الرئيس المصري.
ومد لي برقية واردة من استطلاع الجيش الليبي، تقول إن بعض الوحدات المصرية انسحبت من الجبهة. فقلت للقذافي وقد شعرت بعودة النبض إلى عروقي: خلاص. إذن الكرة أصبحت في ملعبنا نحن، وعلينا أن نتخذ الخطوة التالية، فوافق، وأعلن في خطاب عام أنه لن يحارب جيش عبدالناصر ولن يدمر السد العالي. وقال أيضًا: لا بد أن نحول هذه المنطقة إلى منطقة رخاء وتعاون بين البلدين وأنه مهما كانت خلافاتنا سياسية فلا يجب أن نصل لدرجة تجييش جيوشنا وقدراتنا لمصلحة الغرب».
وأضاف قذاف الدم «أن الإجراءات العملية لإنهاء التوتر العسكري على الحدود المصرية الليبية استمرت بعد ذلك حيث أكمل السادات سحب باقي قواته، وقام قادة من الجيش الليبي بعقد اجتماعات مع كل من الجيش المصري والمخابرات المصرية، وأصبح يطلق عليها لسنوات اجتماعات الحدود وتهدف للتعاون المشترك لتأمين المنطقة بدلاً عن الصراع فيها».
واختتم قذاف الدم روايته لـ«الشرق الأوسط»: «حاول الغرب إحياء المخطط نفسه مع الرئيس حسني مبارك، في تسعينات القرن الماضي، وجاء لهذا الغرض، للقاهرة، رئيس الأركان الأميركي، ومعه المخططون من المخابرات الأميركية، إلا أن مبارك أبلغنا بهذا الموضوع، ورفض أن تشترك مصر في المؤامرة ضد ليبيا».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق