ليبيا المستقبل
أ ش أ: يبدو المشهد السياسي الليبي كارثيا في خضم الأحداث المتلاحقة والتي لن يكون آخرها اقتحام مجموعة مسلحة غير نظامية يقودها اللواء السابق بالجيش الليبي خليفة حفتر، مقر المؤتمر الوطني العام في طرابلس، وإغلاق الطرق المؤدية إليه، والذي كان قد تعرض لعمليتين قبل ذلك الأولى في نهاية أبريل الماضي، والثانية كانت في مارس الفائت وأسفرت عن إصابة نائبين بالرصاص.
كما شهدت مدينة بنغازي بشرق ليبيا مواجهات عنيفة في 16 مايو الجاري بين مقاتلين إسلاميين وبين مجموعة تطلق على نفسها "الجيش الوطني" بقيادة اللواء خليفة حفتر، إذ يؤكد مراقبون أن ما يحدث في بنغازي هو نتيجة لفشل الدولة المركزية الليبية، فيما تحاول القوى السياسية والمجتمع المدني لملمة الأوضاع، معتبرين أن الاصطفاف السياسي الحاد في ليبيا ساهم في تدهور الأوضاع الأمنية، بسبب وجود أزمة ثقة بالبلاد نظرا لاستفراد فريق بالسلطة ومفاصل الدولة.
والذي لا شك فيه أن انفلات الأوضاع الأمنية على هذا النحو يعرقل المسار والانتقال الديمقراطي، ونتيجة لذلك لا يظهر إلا من يحمل السلاح، ولذلك تدخل الأزمة السياسية الليبية نفقا مجهولا، الأمر الذي يستوجب استنهاض كافة القوى السياسية لإجراء مصالحة وطنية لبناء الدولة في ظل حقيقة أنه ليس ثمة أي فرصة لقوات أجنبية للتدخل على الأرض في ليبيا لأن مآلها سيكون الفشل، وسيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار.
ويعتقد خبراء ومحللون أن اللحظة الراهنة وما تشهده من ظروف ضاغطة وتحديات على كل المستويات، تتطلب تراصا واصطفافا من قبل الكل؛ حكومة وشعبا وقوى سياسية، من أجل عبور هذه المرحلة الاستثنائية بكل ما تحويه من مخاطر عديدة يمكن أن تقود الجميع إلى المجهول، قد يكون البعض غير راضين عن أداء الحكومة، وهذا شيء طبيعي يحدث في الكثير من الدول حتى تلك التي تشهد استقرارا سياسيا وأمنيا، لكن التعبير عن عدم الرضى قطعا لا يكون بتحدي السلطات الشرعية واقتحامها وإثارة الرعب فيها، بل بالوقوف إلى جانبها، لأن الهم ليس مغانم أو مصالح شخصية، بل حياة شعب لا يزال يتلمس خطاه في طريق غير معبد.
ولعل أول متطلبات المرحلة الراهنة يتلخص في بسط هيبة الدولة وجمع السلاح المنتشر في الأيادي غير النظامية، والتوصل إلى توافق يحل أزمة استيلاء المسلحين على مناطق إنتاج النفط التي هى ليست ملكا خاصا، وإنما هى للشعب ولأجيال قادمة.
ولعل الهم الأكبر في هذا السياق يقع على عاتق جامعة الدول العربية ودول الجوار الإقليمي لتقديم الدعم والمساندة للمؤسسات الوليدة في ليبيا، حتى تتمكن من عبور هذه المرحلة الخطيرة في تاريخها، كما أن على الأمم المتحدة مد يد العون السياسي إلى الليبيين، فالانشغال بملفات أخرى ملتهبة في المنطقة أو خارجها، ليس مبررا لجعل التطرف والفوضى يسيطران على ليبيا.
ولا شك أن الطريق إلى الدولة طويل وشاق، ومزروع ربما أيضا بالأشواك، إذ أن ما خلفه عصر العقيد الراحل معمر القذافي يتطلب وقتا وجهدا وإخلاصا من أجل الوطن، ولا أحد سواه، وعلى الليبيين أن يكونوا على استعداد لذلك.
بناء الأمن أم الحرب الأهلية؟
ويبقى التأكيد على أن التحديات الأمنية هى حجر الزاوية في بناء أي مجتمع سياسي، وبالرغم من توافر الرؤى اللازمة لمعالجة الاختلال الأمني لدى الأجهزة الأمنية الليبية الحالية، إلا أن غياب التوافق بين الفاعلين السياسيين والقوى المؤثرة في القرار السياسي أدى إلى تعثر خطط الحكومة، بل وتفاقم الاختلال الأمني، لذا فإن مساعي إيجاد وفاق وطني حول سياسات احتواء الاختلالات الأمنية وبناء الجيش والشرطة ينبغي أن تكون المدخل للتصحيح.
ومع التسليم بأن الدولة الحديثة لا تقوم على العشائرية والقبلية، إلا أن معالجة الخروقات الأمنية في ليبيا اليوم لا يمكن أن يتحقق دون إشراك القبائل في ممارسة ضغوط اجتماعية على غير الممتثلين للسياسات والخطط الأمنية، وتوفير الدعم لرجال الشرطة ومن تسند إليهم مهام حفظ الأمن من خلال ميثاق يهدر حقوق من يتورط في الإخلال بالأمن، ويوفر الحماية الاجتماعية لعناصر الأمن عند تأدية واجباتهم الأمنية.
مع الأخذ في الاعتبار قبل كل شيء ضرورة رصد الواقع الأمني بشكل علمي دقيق، حيث لا تزال أعداد المجموعات والكتائب المسلحة غير معلومة، ولا توجد معلومات عن العديد من مقارها والمنتسبين إليها ووسائل تمويلها وعلاقاتها الأفقية والرأسية، واستمرار الجهل بهذه المعلومات قد يضعف قدرة الدولة ويعمل على سيولة نظامها السياسي ويدخلها ربما في دائرة الحرب الأهلية التي تمثل قمة الخطر، ليس على آفاق المستقبل السياسي وبناء الدولة في ليبيا، وإنما على مستقبل دول الجوار الجغرافي بل والإقليمي برمته، وعلى المجتمع الدولي بكل كياناته ومؤسساته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق