ليبيا المستقبل_لا تبدو الأخبار الواردة من ليبيا سيئة فحسب، وإنما هزلية أيضاً، ومن بين هذه الأنباء نفى المتحدث الرسمي باسم «وزارة الشهداء والمفقودين» تقارير تفيد بتعرض الوزير لمحاولة اغتيال، وإنما أفاد «بأن سيارته تعرضت فقط لرصاصة طائشة في أثناء تبادل لإطلاق النار بين سكان محليين». وفي هذه الأثناء، تراجعت صادرات النفط إلى أدنى من عشرة في المئة من الطاقة الإنتاجية، بعد أن أغلق محتجون حقول النفط ورفضوا التفاوض، وإضافة إلى ذلك، سرق مسلحون 55 مليون دولار من سيارة مصفحة كانت تتجه إلى أحد البنوك الليبية. كانت فقط هذه هي أخبار الأسبوعين الأخيرين، لكن في العاشر من أكتوبر الماضي، تعرض رئيس الوزراء لعملية اختطاف من قبل إحدى الميليشيات، بينما أطلقت سراحه ميليشيا أخرى. وقبل عقد مضى، حذر خبراء عرب ودارسون للديمقراطية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش من أن خططه الرامية إلى تعزيز الديمقراطية في العالم العربي ستبوء بالفشل، ليس فقط لأن المنطقة ستقاوم التأثير الأميركي، ولكن أيضاً لأنها تفتقر إلى المؤسسات والعادات السلوكية التي يمكن أن ترتكز عليها دعائم الديمقراطية. وبرهن التورط الأميركي في العراق على أن هؤلاء الخبراء كانوا محقين بشأن المشكلة الأولى، بينما يبدو أن ما يسمى «الربيع العربي» أثبت المشكلة الثانية؛ ذلك أنه في الدول التي ثارت شعوبها وأطاحت برؤسائها مثل مصر وتونس وليبيا، ملأت الفوضى الفراغ الموجود في السلطة. وعليه، فمن غير المثير للدهشة أن أوباما لم يشر في الخطاب الذي أدلى به أمام الأمم المتحدة، بشأن أولوياته تجاه الشرق الأوسط، إلى شيء حقيقي يتعلق بالديمقراطية. وتخوض ليبيا تجربة خاصة جداً -وإنْ كانت في الوقت الراهن بائسة جداً- في التغيير السياسي، فقد كان حكم القذافي الذي استمر 42 عاماً مركزياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وعندما سقط من السلطة انهار معه كل شيء، وترك ليبيا بلا مؤسسات حاكمة على الإطلاق.
ويكاد يكون من المستحيل تدشين الديمقراطية وبناء حكومة في آن واحد، إذ إن الحكام الجدد عادة ما يعتمدون على المؤسسات في تقديم امتيازات من شأنها إقناع المواطنين بأن الديمقراطية مهمة لهم. ولكن الأصعب من ذلك أن النظام الثوري بقيادة القذافي علّم الشعب الليبي أن لا يثقوا في أحد سوى القبيلة، ومن ثم غرس بذور عدم اليقين في الحكومة؛ وهو ما يفسر السبب وراء رفض نحو 300 ميليشيا نزع السلاح، والعلة الحقيقية وراء تفضيل العمال في قطاع النفط الابتزاز على المفاوضات. وينبغي أن يكون مستقبل ليبيا كريماً، في ضوء تعداد سكانها الذي لا يتجاوز 5.5 مليون نسمة وما تمتلك من احتياطات نفطية ضخمة، وإجمالي ناتجها المحلي للفرد الذي يضاهي نظيره التركي، كما أن الانقسامات الطائفية ضئيلة والمجتمع الدولي الذي قدم الدعم العسكري والسياسي للثورة، متلهف لمساعدة الدولة على العمل. ورغم ذلك، لا تزال ليبيا تدور في دائرة مغلقة، إذ إن حكومة رئيس الوزراء علي زيدان لا تتمتع سوى بشرعية محدودة أضعفها رفض الميليشيات نزع السلاح، واستمرارها في العمل كما تشاء. وفي المقابل، يعزز عجز الحكومة اقتناع الليبيين بأنه لا يمكنهم الحصول على ما يرغبون إلا من خلال فوهات البنادق، ولا شك في أن غياب الأمن وضعف الشرعية قرينان متلازمان، وما لم تتمكن ليبيا من الخروج من الدائرة، سيبقى المستقبل حلماً يبعث على القلق. ولكن إلى أين ستؤول الأمور؟ يبدو أن حالة من التفاؤل الحذر تنتاب المراقبين في الآونة الأخيرة؛ إذ إن ليبيا اقتربت في مرات عدة من شفا الهاوية، لكنها سرعان ما تراجعت، فاختطاف زيدان انتهى بصورة سلمية، والمناوشات بين الميليشيات نادراً ما تفضي إلى سقوط عدد كبير من القتلى، ويخشى الليبيون تدمير ثورتهم. وعليه، لابد من الإسراع في اتخاذ خطوات ملموسة، فرغم أن ليبيا تمتلك الأموال لكنها عاجزة عن إنفاقها، كما أن عدم إحراز «المؤتمر الوطني العام»، المعني بصياغة الدستور، أي تقدم يقف حجر عثرة في طريق مبادرات زيدان، وتبقى الوزارات المركزية عاجزة. وفي غضون ذلك، أشار المتخصص في الشأن الليبي في مجلس الأمن الوطني في إدارة أوباما «بين فيشر»، الذي استقال مؤخراً، إلى أن رئيس الوزراء يمكنه تجنب هذه العقبات عن طريق إنفاق الأموال عبر المجالس البلدية، أملاً في إيجاد فرص عمل للشباب الذين يؤمنون بأن السلاح هو ثروتهم الوحيدة. وتحتاج ليبيا أيضاً بصورة ملحة إلى مصالحة وطنية، على غرار ما حدث في اليمن، من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن قضايا أساسية، مثل مستوى الحكم الذاتي للأقاليم الثلاثة في الدولة، ورغم أن زيدان دعا إلى هذا الحوار، فإنه لم يتم بسبب إصرار كل فصيل على رعاية المحادثات. ويحتاج الليبيون إلى تعلم كل شيء من وضع الموازنة إلى إدارة وزارة وبناء جيش وطني. لكن الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي في سبتمبر الماضي أدى إلى توقف معظم جهود المساعدة، مثل تعيين مستشارين في وزارة الدفاع، لكن هناك مساعي لإحياء هذه الجهود في الوقت الراهن، حسب مسؤول في الإدارة الأميركية. ووافقت كل من إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة على بدء تدريب الجيش الوطني، لكن المشاركة الأميركية في هذه الجهود ستكون في بلغاريا وستبدأ الربيع المقبل. وبحلول فصل الصيف، سيكون لدى ليبيا قوة مجهزة مكونة من ألف جندي، ما من شأنه أن يمكنها من بدء تحدي الميليشيات. ومن حسن حظ ليبيا أنها لا تحتاج إلى مال تقدمه الولايات المتحدة، لكنها بحاجة إلى التدريب في تخصصات تعرف عنها واشنطن الكثير.
المصدر: واشنطن بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق