لو كنت أعرف آنذاك ما أدرك الآن، لكنت تصرفت على نحو مختلف. أستعير العبارة من تعبير بالإنجليزية يقول:
(If I knew then what I know now، I would have acted differently)
وهو تعبير ردده ساسة غربيون خلال السنوات الخمس الأخيرة في سياق تبريري، أو للتنصل من تبعة سياسات تبيّن لاحقا أنها أضرت أكثر مما أفادت، مثلما حصل بشأن جدل حرب 2003 على العراق. استحضرت ذلك السياق التبريري مع متابعة الجدل على ضفتي الأطلسي بشأن الضربة المتوقعة ضد دمشق، ثم وجدتني أنتقل بالتعبير ذاته إلى حال ليبيا بعد ما يقرب من سنتين على اعتقال معمر القذافي - 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 - وإعدامه، فتساءلت: هل نسمع بعض ساسة الغرب يرددون ذلك الكلام ذاته في سياق ندم على توجيه ضربة أرادوها محدودة فإذا هي حرب تتسع على نحو لم يحسب له حساب؟ وهل يجوز أن يردد بعض أهل الغرب، وهم يرون ما آلت إليه أوضاع ليبيا الأمنية، ذلك الكلام التبريري من باب الندم على المسارعة إلى شن حملة الناتو التي لولاها لما انهار حكم القذافي بتلك السرعة؟
الشأن السوري لا يزال في حكم المجهول، وليس من السهل تكهن ما ستؤول إليه الأوضاع قبل حصول الضربة، ثم معرفة مدى وكيفية ردود الفعل عليها، وما إذا كان الحكم السوري وحلفاؤه في لبنان وإيران سيثبتون بالفعل، لا بالقول فقط، قدرتهم على قلب الطاولة على رؤوس من شنوا الهجوم، أم سيكتفون بالدفاع عن مواقعهم والقبول بوقف فوري لإطلاق النار، من منطلق أنها مجرد جولة من جولات الصراع... إلى آخر المعروف من أدبيات معسكر الممانعة والمقاومة، وإرث ما تردد من تراث جبهة الصمود والتصدي ومقولاتها من قبله، أما ما تكون التسمية والشعارات من بعدهما، فلا أدري، ذلك متروك لأحفادي.
لكن غموض نتائج ما بعد الضربة المتوقعة، لا يلغي مأساوية واقع السوريين داخل سوريا وخارجها. يكفي أن تقول الأمم المتحدة إن أوضاع ما يزيد عن مليوني لاجئ سوري باتت تشكل أسوأ كارثة لاجئين في الوقت الراهن. يقال دائما إن ثمن التغيير مؤلم عبر كل العصور. صحيح. مع ذلك، كان بالوسع الحيلولة دون وصول الأمور إلى هذه الدرجة من السوء. هناك أكثر من طرف يشترك في المسؤولية؛ أولها بالطبع مجازر حكم بشار الأسد وعائلته، وأيضا الفظاعات التي ولغت فيها تنظيمات تزعم انتسابا للدين الإسلامي. بيد أن قدر الشعوب إذا استكانت للظلم سنين عدة أن تدفع باهظ الثمن عندما تنهض من الأنقاض لتسترد ما سلب الظالم. لذلك يجب ألا يتمكن اليأس من النفوس. فرغم كل المآسي، ما ظهر منها وما خفي، سيأتي السلام بكل آلام كلفته، وتستعيد سوريا عافيتها من جديد، وإن طال زمن معاناتها.
أما الشأن الليبي فواضح حاله غير المفرح، ذلك أن مسلسل الاغتيالات والخطف متواصل، والنفخ مستمر في نار الصراع القبلي، ويزيد الأمر سوءا فوضى انتشار السلاح، الخفيف منه والثقيل، يضاف إلى ذلك أن تأثير تنفيذ قانون العزل السياسي في ليبيا يبدو مماثلا لنتائج حل الجيش وحظر حزب البعث في العراق، وهو ما أدى إلى تعطيل كفاءات كان بوسعها الإسهام في إعادة البناء.
هل ما سبق يبرر تطبيق التعبير الإنجليزي على الواقع الليبي؟ بالتأكيد كلا، لكن الليبيين بحاجة إلى تحقيق أعلى درجات التسامح، والسمو فوق رغبات الانتقام، حتى عندما يتعلق الأمر بأشخاص كانوا مقربين من الطاغية، طالما أن أيديهم ليست ملطخة بدماء ضحايا، أما أفراد عائلاتهم فمن العدل، فضلا عن الإنسانية، أن يعيشوا آمنين في بلدهم. هذا يستدعي العمل بمنهج نيلسون مانديلا التسامحي الذي وضع أسس بناء جنوب أفريقيا ما بعد انهيار النظام العنصري. أذكر مانديلا لأنه مثل يُضرب من الواقع المعاصر، ومن دون نسيان حقيقة أن ليبيا ما قبل القذافي ذات تراث غني بالتسامح، وهو ما يعزز الأمل أن تشكل مبادرة حوار وطني أعلنها رئيس الوزراء علي زيدان في الخامس والعشرين من أغسطس (آب) الماضي، الأساس الذي يمكن البناء عليه وصولا إلى ليبيا المستقبل، العائدة إلى الطبيعة السمحة لأهلها الطيبين، فكل غير ليبي أقام بينهم وعرف تسامح طباعهم، قبل انقلاب «فاتح» سبتمبر (أيلول) 1969، يتذكر تلك العشرة الطيبة بيسر، كما هو الحال معي، وكذلك الأمر مع «المحبِّر» المتدفق صحافة ذات ثقافة راقية في غير مجال، سمير عطا الله، صاحب «قافلة الحبر»، المشهود له اهتمامه بأدب الرحلات، الذي أعادني الخميس الماضي إلى بنغازي، ودار «الحقيقة» حيث عمل هو لفترة قصيرة وحيث بدأت تجربتي المِهنية، فتعلمت من صحافة محمد ورشاد بشير الهوني، ونهلت من نبع لغة قاسم حماد، واستفدت من خبرة محمد اليسير في «ليبيان تايمز»، ونور الدين الزراري الآتي من دار «الجمهورية» وازددت تعلقا بفن الإخراج الصحافي إذ أتعلم من عثمان لطفي، مخرج «أخبار اليوم»، وهناك التقيت بحرف المفكر الفيلسوف الصادق النيهوم وفكره، قرأته قبل النشر، وحظيت بالنقاش معه، والجدل أحيانا، كما عرفت أدب خليفة الفاخري الكاتب والإنسان، وتعرفت على إبداع الكارتونست محمد الزواوي وطيبة ابتسامته، وعلى تجليات الشاعر علي الفزاني وضوضاء احتفاله مع محمد ورجب الشلطامي بعبد الوهاب البياتي وأمسياته. وعلى صفحات العدد الأسبوعي قرأت لكتاب أدباء من وزن أحمد إبراهيم الفقيه، وعلي المصراتي، وخليفة التليسي، وغيرهم. هناك أيضا تعرفت على الدكتور عبد القادر القط والبروفسور عبد الرحمن بدوي. وتحت سقف تلك الدار، عِشتُ زمالة نظيفة من كل شوائب الغيرة والحسد، فصارت صداقة حقة مع السنوسي بشير الهوني، ومحمد أحمد وريث، وأحمد الحريري، وأنيس السنفاز، ومحمد علي الشويهدي، وعبد الرازق بوخيط، ومنصور صبرة، وعبد الفتاح المنصوري، وآخرين. كيف – إذنْ - لا تجلس بنغازي مجلس غزة في القلب، بل ليبيا كلها، وكيف أستغرب إن وجدت نفسي مشدودا إلى ذلك التعبير الإنجليزي فيما يخص تجربتي المِهنية، فأجدني بلا تردد أردده هو ذاته. حقا، لو كنت أعرف عن معمر القذافي نهار انقلابه ما أدركته عبر التجربة خلال السنوات الخمس الأولى، لاختلف موقفي، ولتغيّر المسار، وهو ما حصل فور ما سنحت الفرصة فكانت الهجرة إلى لندن، لكن ذلك الرحيل لم يلغِ الإحساس بتحمّل نصيب من المسؤولية، لذا لست أتردد الآن، بعد أربع وأربعين سنة، في الاعتذار لليبيا وأهلها الطيبين، عن الإسهام، ولو بمجرد التغطية الصحافية، في التغطية على الطغيان عددا من السنين.
بكر عويضة
(If I knew then what I know now، I would have acted differently)
وهو تعبير ردده ساسة غربيون خلال السنوات الخمس الأخيرة في سياق تبريري، أو للتنصل من تبعة سياسات تبيّن لاحقا أنها أضرت أكثر مما أفادت، مثلما حصل بشأن جدل حرب 2003 على العراق. استحضرت ذلك السياق التبريري مع متابعة الجدل على ضفتي الأطلسي بشأن الضربة المتوقعة ضد دمشق، ثم وجدتني أنتقل بالتعبير ذاته إلى حال ليبيا بعد ما يقرب من سنتين على اعتقال معمر القذافي - 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 - وإعدامه، فتساءلت: هل نسمع بعض ساسة الغرب يرددون ذلك الكلام ذاته في سياق ندم على توجيه ضربة أرادوها محدودة فإذا هي حرب تتسع على نحو لم يحسب له حساب؟ وهل يجوز أن يردد بعض أهل الغرب، وهم يرون ما آلت إليه أوضاع ليبيا الأمنية، ذلك الكلام التبريري من باب الندم على المسارعة إلى شن حملة الناتو التي لولاها لما انهار حكم القذافي بتلك السرعة؟
الشأن السوري لا يزال في حكم المجهول، وليس من السهل تكهن ما ستؤول إليه الأوضاع قبل حصول الضربة، ثم معرفة مدى وكيفية ردود الفعل عليها، وما إذا كان الحكم السوري وحلفاؤه في لبنان وإيران سيثبتون بالفعل، لا بالقول فقط، قدرتهم على قلب الطاولة على رؤوس من شنوا الهجوم، أم سيكتفون بالدفاع عن مواقعهم والقبول بوقف فوري لإطلاق النار، من منطلق أنها مجرد جولة من جولات الصراع... إلى آخر المعروف من أدبيات معسكر الممانعة والمقاومة، وإرث ما تردد من تراث جبهة الصمود والتصدي ومقولاتها من قبله، أما ما تكون التسمية والشعارات من بعدهما، فلا أدري، ذلك متروك لأحفادي.
لكن غموض نتائج ما بعد الضربة المتوقعة، لا يلغي مأساوية واقع السوريين داخل سوريا وخارجها. يكفي أن تقول الأمم المتحدة إن أوضاع ما يزيد عن مليوني لاجئ سوري باتت تشكل أسوأ كارثة لاجئين في الوقت الراهن. يقال دائما إن ثمن التغيير مؤلم عبر كل العصور. صحيح. مع ذلك، كان بالوسع الحيلولة دون وصول الأمور إلى هذه الدرجة من السوء. هناك أكثر من طرف يشترك في المسؤولية؛ أولها بالطبع مجازر حكم بشار الأسد وعائلته، وأيضا الفظاعات التي ولغت فيها تنظيمات تزعم انتسابا للدين الإسلامي. بيد أن قدر الشعوب إذا استكانت للظلم سنين عدة أن تدفع باهظ الثمن عندما تنهض من الأنقاض لتسترد ما سلب الظالم. لذلك يجب ألا يتمكن اليأس من النفوس. فرغم كل المآسي، ما ظهر منها وما خفي، سيأتي السلام بكل آلام كلفته، وتستعيد سوريا عافيتها من جديد، وإن طال زمن معاناتها.
أما الشأن الليبي فواضح حاله غير المفرح، ذلك أن مسلسل الاغتيالات والخطف متواصل، والنفخ مستمر في نار الصراع القبلي، ويزيد الأمر سوءا فوضى انتشار السلاح، الخفيف منه والثقيل، يضاف إلى ذلك أن تأثير تنفيذ قانون العزل السياسي في ليبيا يبدو مماثلا لنتائج حل الجيش وحظر حزب البعث في العراق، وهو ما أدى إلى تعطيل كفاءات كان بوسعها الإسهام في إعادة البناء.
هل ما سبق يبرر تطبيق التعبير الإنجليزي على الواقع الليبي؟ بالتأكيد كلا، لكن الليبيين بحاجة إلى تحقيق أعلى درجات التسامح، والسمو فوق رغبات الانتقام، حتى عندما يتعلق الأمر بأشخاص كانوا مقربين من الطاغية، طالما أن أيديهم ليست ملطخة بدماء ضحايا، أما أفراد عائلاتهم فمن العدل، فضلا عن الإنسانية، أن يعيشوا آمنين في بلدهم. هذا يستدعي العمل بمنهج نيلسون مانديلا التسامحي الذي وضع أسس بناء جنوب أفريقيا ما بعد انهيار النظام العنصري. أذكر مانديلا لأنه مثل يُضرب من الواقع المعاصر، ومن دون نسيان حقيقة أن ليبيا ما قبل القذافي ذات تراث غني بالتسامح، وهو ما يعزز الأمل أن تشكل مبادرة حوار وطني أعلنها رئيس الوزراء علي زيدان في الخامس والعشرين من أغسطس (آب) الماضي، الأساس الذي يمكن البناء عليه وصولا إلى ليبيا المستقبل، العائدة إلى الطبيعة السمحة لأهلها الطيبين، فكل غير ليبي أقام بينهم وعرف تسامح طباعهم، قبل انقلاب «فاتح» سبتمبر (أيلول) 1969، يتذكر تلك العشرة الطيبة بيسر، كما هو الحال معي، وكذلك الأمر مع «المحبِّر» المتدفق صحافة ذات ثقافة راقية في غير مجال، سمير عطا الله، صاحب «قافلة الحبر»، المشهود له اهتمامه بأدب الرحلات، الذي أعادني الخميس الماضي إلى بنغازي، ودار «الحقيقة» حيث عمل هو لفترة قصيرة وحيث بدأت تجربتي المِهنية، فتعلمت من صحافة محمد ورشاد بشير الهوني، ونهلت من نبع لغة قاسم حماد، واستفدت من خبرة محمد اليسير في «ليبيان تايمز»، ونور الدين الزراري الآتي من دار «الجمهورية» وازددت تعلقا بفن الإخراج الصحافي إذ أتعلم من عثمان لطفي، مخرج «أخبار اليوم»، وهناك التقيت بحرف المفكر الفيلسوف الصادق النيهوم وفكره، قرأته قبل النشر، وحظيت بالنقاش معه، والجدل أحيانا، كما عرفت أدب خليفة الفاخري الكاتب والإنسان، وتعرفت على إبداع الكارتونست محمد الزواوي وطيبة ابتسامته، وعلى تجليات الشاعر علي الفزاني وضوضاء احتفاله مع محمد ورجب الشلطامي بعبد الوهاب البياتي وأمسياته. وعلى صفحات العدد الأسبوعي قرأت لكتاب أدباء من وزن أحمد إبراهيم الفقيه، وعلي المصراتي، وخليفة التليسي، وغيرهم. هناك أيضا تعرفت على الدكتور عبد القادر القط والبروفسور عبد الرحمن بدوي. وتحت سقف تلك الدار، عِشتُ زمالة نظيفة من كل شوائب الغيرة والحسد، فصارت صداقة حقة مع السنوسي بشير الهوني، ومحمد أحمد وريث، وأحمد الحريري، وأنيس السنفاز، ومحمد علي الشويهدي، وعبد الرازق بوخيط، ومنصور صبرة، وعبد الفتاح المنصوري، وآخرين. كيف – إذنْ - لا تجلس بنغازي مجلس غزة في القلب، بل ليبيا كلها، وكيف أستغرب إن وجدت نفسي مشدودا إلى ذلك التعبير الإنجليزي فيما يخص تجربتي المِهنية، فأجدني بلا تردد أردده هو ذاته. حقا، لو كنت أعرف عن معمر القذافي نهار انقلابه ما أدركته عبر التجربة خلال السنوات الخمس الأولى، لاختلف موقفي، ولتغيّر المسار، وهو ما حصل فور ما سنحت الفرصة فكانت الهجرة إلى لندن، لكن ذلك الرحيل لم يلغِ الإحساس بتحمّل نصيب من المسؤولية، لذا لست أتردد الآن، بعد أربع وأربعين سنة، في الاعتذار لليبيا وأهلها الطيبين، عن الإسهام، ولو بمجرد التغطية الصحافية، في التغطية على الطغيان عددا من السنين.
بكر عويضة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق