تتوالى الأخبار عن تردي الوضع الأمني في ليبيا عمومًا
وفي مدينتي بنغازي وطرابلس خصوصًا، ولا يكاد يوم يمر إلا وشهد أعمال عنف أو
مصادمات بين أطراف مسلحة، إضافة للاختفاء القسري والخطف لأجل الفدية. وهو
ما دفع منظمات حقوقية محلية وعالمية لوصف الوضع بأنه انتهاك لحقوق الإنسان،
في حين وصفه نشطاء ليبيون بأنه أسوأ مما كان سائدًا أيام القذافي من
انتهاكات؛ حيث لا يمكن إسناد مسؤوليته فقط لما يسمى "أزلام القذافي". وتأتي
هذه الأوضاع المتدهورة في سياق إقليمي متوتر، خاصة ما يحدث في مصر وتونس،
مع تصاعد خطر تهديد القاعدة والجريمة المنظمة عبر الحدود، وهو ما دفع
السلطات الليبية للتنسيق مع كل من تونس والجزائر لمواجهة تهديدات الجماعات
المسلحة التي وجدت في عدم الاستقرار الأمني ووفرة السلاح المنتشر عقب
الثورة الليبية أداة لتحقيق أهدافها.
خصائص المشهد الحاضر
يزداد الوضع الأمني في ليبيا سوءًا، مع ضعف مؤسسات الحكم
الانتقالي، وتواصل الصراع بين المكونات السياسية على مستويات حزبية أو
مناطقية أو قبلية أو أقاليمية. وتواجه الحكومة خروج وزاراتها وموظفيها عن
شرعيتها وسيطرتها؛ حيث يستقيل وزراء ويكيلون لرئيسها الاتهامات، ويدينون
مواقف القوى السياسية فقط بعد استقالتهم بينما لم يتجرؤوا على ذلك أثناء
قيامهم بمهامهم. وتشير تقارير عديدة إلى ارتفاع مؤشرات
الفساد وسرقة المال العام وهدر الثروات، ويتعرض إنتاج النفط، المصدر الوحيد
للدخل الوطني، للاعتداء في مواقعه وتسهيلاته الإنتاجية والتصديرية، وكان
آخرها إيقاف الإنتاج والتصدير عبر حقول وموانئ مثلث ليبيا النفطي في الشرق؛
حيث قام مسلحون ضمن ما يسمى بحرس المنشآت النفطية بتصدير النفط لحسابهم
الخاص، ضمن عمليات قرصنة بمساعدة أطراف خارجية. وتضع هذا
التطورات الحكومة والمؤتمر الوطني الذي يقوده الإسلاميون في مأزق، وذلك في
سياق تأليب الرأي العام ضد المؤسسات الانتقالية عامة، وفي ظل قيام قوى
إسلامية وأقاليمية بمهاجمة الحكومة ومطالبة المؤتمر بإقالتها رغم أنها ليست
طرفا في الصراع الدائر، كما أن القوى المهيمنة فعليًا بسطوة السلاح تحد من
فاعليتها. وفي السياق ذاته تجازف القوى المسيطرة الساعية
لإرضاء مكوناتها بخسارة ليس فقط خصومها ومؤيدي مساعي الحكومة، بل خسارة كل
شيء، إذا قررت الأطراف المقابلة خوض الصراع على الأرض، بدل الصراع
السياسي.
هل من تفسير مناسب؟
يضم المشهد الليبي ظواهر تعكس وضعية البلاد، وذلك بعد
التفاؤل الذي أعقب نجاح انتخابات يوليو/تموز 2012، ويمكن اعتبار تردي
الأوضاع الأمنية والصراع السياسي والقبلي والمناطقي وعجز مؤسسات الدولة عن
القيام بوظائفها، أبرز هذه الخصائص. وقد أدت الثورة التي انطلقت ضد القذافي
في بعض المناطق لتنتشر في الأطراف، بعيدًا عن المركز حتى نهاية أعمال
العنف بتحرير طرابلس، إلى نشوء قوى مناطقية وقبلية، وقوى ذات توجهات
سياسية. وتمكنت هذه القوى من بناء شرعيات على أسس مختلفة، استقرت ضمن
بيئتها الحاضنة معززة بالسلاح. وقد اتجهت القوى التي
وحدها الصراع ضد القذافي إلى تحقيق أهدافها الخاصة بعد سقوطه، ولم تعد تأبه
لأهمية التوافق لإنجاح المرحلة الانتقالية. كما أن الحكومة والطبقة
السياسية عاجزة عن معالجة الأوضاع التي تهدد السلم الاجتماعي، في غياب
التوافقات بشأن طبيعة النظام السياسي الجديد، ورفض الجماعات الثقافية من
أقليات الأمازيغ البربر والتبو والطوارق للهيئة التأسيسية لصياغة الدستور،
وإعلانهم مقاطعة العملية السياسية. تمثل هذه التطورات
تهديدًا حقيقيًا، خاصة بعد إظهار قادة ثوار التبو والطوارق يوم 14 أغسطس/آب
الجاري العزم على إعلان فزان إقليمًا فيدراليًا مستقلاً؛ مما يقوي دعاوى
الفيدرالية شرقًا، وقد أصدر مجلس برقة إعلانًا بتنفيذ استقلال الإقليم، بل
إن رئيس جهاز حرس المنشآت النفطية الذي تتهمه الحكومة في طرابلس بسرقة
النفط وأعفته من مهامه، صار رئيسًا لمجلس إقليم برقة الفيدرالي. وسيكون
للتطورات الجارية مآلات تهدد سلطة الحكومة في طرابلس وسيادتها على الموارد
النفطية، بل تنذر بتدني وارداتها المالية لتراجع كميات النفط المصدر
واحتمال توقفه نهائيًا؛ حيث تعاني الميزانية عجزًا جعل الحكومة تعلن عن
احتمال تأخرها في دفع المرتبات، مما يثير تساؤلات حول مصير مدخرات ليبيا
وأموالها. و لذلك صلة باستمرار الهدر في الموازنات؛ فقد تم التغاضي عن
طريقة صرف 68 مليار دينار ضمن ميزانية حكومة عبد الرحمن الكيب السابقة، ولم
يجر التحقيق في كيفية صرفها، رغم تصريحات المسؤولين حول الفساد بشأنها. وفي
حين تواصل حكومة زيدان طلب مخصصات إضافية، فقد تأكد للرأي العام بعد كشف
وثائق نشرها مقتحمون أمازيغ لمقر المؤتمر الوطني الأسبوع الماضي أن معظم
مخصصات الميزانية هي مكافآت ومرتبات ومزايا لفئات تنتنمي لقوى سياسية أو
لمناطق قوية كمصراته، بحجج مثل التعويض عن مظالم حكم القذافي. ولم يخصص
منها سوى 19 مليار دينار للخدمات الأساسية والبنية التحتية. ويصعب على
الحكومة تحسين هذه الخدمات والبنى بميزانية تخصص نحو3000 دينار لكل فرد من
السكان، علمًا بأن استئناف أعمال إعادة الإعمار وإطلاق الاقتصاد مرتبط
بالتوافق السياسي واستتباب الأمن لعودة الشركات والعمالة الأجنبية.
الوضع الإقليمي وانعكاساته
يدفع الوضع الإقليمي وتطورات الأزمة المصرية، القوى
الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمين في ليبيا للعمل للحيلولة دون تكرار
سيناريو مماثل في ليبيا. ولتجنب مصير مماثل، قرروا اللجوء إلى القوى التي
كانت سببًا مباشرًا حال دون التوصل إلى التوافقات الضرورية، وأجّج الصراع
السياسي والقبلي والمناطقي؛ حيث اللجوء للقوة واستعراضها في وجه قوى قبلية
وسياسية أخرى لا ينقصها السلاح أيضًا، وإن كانت تتميز عن الإسلاميين عمومًا
والإخوان المسلمين خصوصًا بمقاربتها المركزة على المصالحة الاجتماعية
والعدالة الانتقالية، مقابل مقاربة الإسلاميين بفرض قانون العزل السياسي
ومجاراة مصراته القوية في رفضها عودة مهجري تاورغاء إلى ديارهم. وفي تأخير
تفعيل جهاز القضاء وإقرار العدالة الانتقالية بما يسمح لمئات الآلاف من
الليبيين المهجرين في الداخل والخارج بالعودة إلى ديارهم. علاوة على إرباك
بناء الشرطة والجيش والتعلل بخطر أزلام القذافي للتمسك بشرعية ثورية
دائمة. وتحوي هذه المقاربة خطرًا على الوضع الهش، وتسهم
في حرمان الإسلاميين من التأييد الشعبي؛ حيث يعانون غياب تأييد القاعدة
الشعبية العريضة كما بينت انتخابات يوليو/تموز2013. وفي
هذا السياق يحاول الإسلاميون السيطرة على طرابلس وضواحيها عسكريًا باستخدام
كتائب مسلحة إضافة إلى كتائب مصراته، بينما تُترك بنغازي ومناطق أخرى
كمدينة درنة لعبث تيارات متشددة. وكان يفترض تكليف هذه الكتائب بتحقيق
الأمن في تلك المناطق، لا التمسك بالسيطرة على طرابلس؛ مما يعزز دعاوى
تهميش الشرق الليبي وتجاهل الوضع الخطير في الجنوب، بما يوفر وقودًا لدعاوى
الفيدرالية أو الانفصال في إقليمي برقة وفزان.
تأمين العاصمة أم الاستعداد للصراع المقبل؟
أصدر رئيس المؤتمر الوطني نوري أبو سهمين قرارًا بإسناد
عملية تأمين العاصمة طرابلس إلى قوات درع ليبيا (الوسطى-الغربية) في مهمة
"مؤقتة" لحماية المعسكرات التي تحتلها كتائب مسلحة. وقد تشكّلت هذه القوات
عام 2012 من كتائب ومليشيات شاركت بالقتال ضد القذافي، إضافة إلى من انضم
إليهم لاحقًا لأسباب مختلفة. حيث تضم آلاف المقاتلين الذين استُخدموا لقمع
بعض القبائل مثل ورفلة، أو لمواجهة التوترات بين المدن لأسباب قبلية وجهوية
تتعلق بحزازات الثورة وما ترتب عنها من انقسام القبائل والمدن إلى منتصر
ومهزوم. إن السيطرة على العاصمة عسكريًا وفقًا للقرار
الذي أصدره رئيس المؤتمر الوطني أبو سهمين في آخر يوليو/تموز الماضي بتكليف
ما يُسمى غرفة أو مجلس ثوار ليبيا بحماية مؤسسات الدولة دون العودة
للمؤتمر أضاف نقطة سلبية أخرى ضد الإسلاميين الذين يعود إلى أصواتهم الفضل
في فوز أبو سهمين بمنصب رئاسة المؤتمر. وتضم التشكيلات في قيادتها إسلاميين
ومتشددين من أبرزهم سالم دربي الذي هدد بشن حرب على كتائب تابعة للزنتان
في طرابلس، ووسام بن حميد المتهم بقتل متظاهرين في بنغازي قبل شهرين. وقد
تم تنفيذ القرار، باستدعاء قوات درع ليبيا (الوسطى-الغربية) التي كلفها
أبوسهمين بمهمة تأمين طرابلس والمناطق المجاورة لها. بالمقابل
يتطلع الليبيون إلى بناء مؤسسات الشرطة والجيش الوطني وإنهاء وجود
الكيانات المسلحة، التي وإن أعلنت الخضوع للشرعية فإنها لا تخضع إلا
لقادتها ورؤاهم السياسية. وبصرف النظر عن أن هذا القرار الذي تحصن بقرار
المؤتمر الوطني منح رئيسه صلاحيات أمنية وعسكرية في أوائل أغسطس/آب الجاري
قد جاء مخالفًا للإعلان الدستوري المؤقت؛ فقد لجأ رئيس المؤتمر وحلفاؤه
الإسلاميون والمناطقيون لهذه الكتائب، وهي التي كانت في شهر مايو/أيار
ويونيو/حزيران الماضيين قد تحدت الشرعية واحتلت الوزارات وأقفلت المؤسسات
الحكومية حتى تم الرضوخ لمطالبها. وفي هذا السياق أصدر
ملتقى القبائل الذي عُقد بالزنتان أوائل شهر يوليو/تموز الماضي خارطة طريق،
ومنح مهلة شهرين مؤكدًا رفض القوى المشاركة لهيمنة تيار الإسلام السياسي
والمسلح على المشهد الحكومي والأمني، وسعي مصراته للهيمنة على طرابلس
والاستحواذ على ما تريده من مقدرات وموارد. وقد رأى الإسلاميون في مواقف
هذا الملتقى والأطراف التي أيدته تمهيدًا لانقلاب على السلطة الشرعية. ووصف
الحاضرين بأنهم بقايا النظام السابق الذين يخططون لانقلاب مماثل لما جرى
بمصر. لذلك تم تجاهل الوضع الأمني المنهار في مناطق بنغازي وما حولها،
والتحول للسيطرة على طرابلس وضواحيها في ما مثل خطوة استباقية للحيلولة دون
تحقق احتمال قيام الزنتان وحلفائها بالسيطرة على العاصمة ومؤسسات الدولة.
ويتجاهل التيار الإسلامي وقادة مصراته أنهم بهذا القرار يضربون التوافقات
بين الأطراف ويضاعفون فشل الحكومة. ويبدو التنسيق التام
بين القوى الإسلامية وبين مصراته القوية ممثلة في كتائبها المسلحة، خاصة
التي يقودها السويحلي وحلفاؤه في مواجهة الزنتان وحلفائها. وهو ما ينذر
برهن مصير البلاد لهذا التحالف ولخطر الصراع. بالمقابل يتغافل قادة التيار
الإسلامي عن أنهم يجازفون بوضع رقبة التيار الإسلامي المعتدل ذاته تحت رحمة
سكين قوى متشددة سياسيًا وقبليًا وجهويًا. وهي ذات القوى (درع ليبيا) التي
اعتدت على الشرعية ومؤسسات الدولة، وحاصرت المؤتمر الوطني واعتدت على
رئيسه وأعضائه وفرضت قانون العزل السياسي بقوة السلاح. إن
المشهد الحالي ينذر بمآلات خطيرة ما لم تدرك مكونات الطبقة السياسية أن
الصراع الذي ميز ما مضى من المرحلة الانتقالية كان سببًا في ما يحدث اليوم،
إلا أن خطره الجوهري هو تهديد ما تبقى من توافقات على أهداف الثورة،
وحرمان البلاد من فرصة إعادة البناء.
التوافق والمصالحة شرط للاستقرار
إن التجربة التي مرت بها البلاد منذ انطلاق الثورة ضد
القذافي تؤكد أهمية التوافقات بين قوى المشهد الليبي الهش، الذي لا يزال
يدفع ضريبة إرث القذافي وتدميره لمقدرات الدولة وتهميشه للمجتمع وتفريق
مكوناته. وتسيطر على المشهد الليبي الذي يغيب عنه التوافق
قوى مسلحة بكثافة، تمثل أجندات أقاليمية كما في برقة والجنوب في فزان،
وقوى قبلية جهوية كما في مصراته والزنتان، كما يعرف هذا المشهد انقسامًا
سياسيًا بين الإسلاميين والليبراليين، وانتشارًا للعصابات المسلحة. ويهدد
غياب التوافق بين القوى السياسية بانحدار البلد نحو صراع يضيع الوحدة
الوطنية خاصة أن القوى المختلفة تتبادل الاتهامات بشأن الارتباطات الخارجية
والارتهان لأجندات خارجية، ليس من شأنها سوى تعميق الانقسام الذي أحدثه
التدخل الخارجي ضد القذافي بين مناطق ليبيا وقبائلها. يبدو
جليًا الطعن في الحكومة وإفشال برامجها، ولذلك تعبيرات عديدة مثل ما صدر
عن عوض البرعصي، عضو جماعة الإخوان المسلمين عندما استقال من منصبه كنائب
لرئيس الوزراء، وما صدر عن وزير الداخلية المستقيل محمد الشيخ، المحسوب على
الإخوان المسلمين؛ حيث نظر مراقبون إلى أن هدف استقالته توجيه سهام نارية
إضافية للحملة التي يقودها الإخوان ضد رئيس الوزراء علي زيدان بهدف إسقاطه
من منصبه أو تكليف شخص من المحسوبين عليها لرئاسة الحكومة، والتحكم بمفاصل
الدولة، مثلما تم إجهاض مساعي الحكومة في خوض معركة حاسمة ضد الميليشيات
المستقلة. وفي حين لا يبدو أن الطبقة السياسية والقيادات
العسكرية تدرك خطر غياب التوافقات، فإن ليبيا قد تحتاج مساعدة المجتمع
الدولي، وإن بطريقة مختلفة لتحقيق التفاهم والحل السلمي للخلافات التي لا
يبدو أن ما آلت إليه الثورة المسلحة يخدم تحقيقه. تحتاج
القيادات السياسية والثورية إلى إدراك أن تحقيق أهداف الثورة في المرحلة
الحالية يتم عبر أساليب تختلف عن تلك التي استُخدمت للإطاحة بالقذافي، وأن
الأحزاب السياسية تتحمل مسؤولية كبيرة رغم ما يوجّه لها من نقد وصل حد
المطالبة بإلغاء وجودها من المشهد. إن عناصر القوة
الأساسية للحكومة هي تحكمها في صرف الأموال من الخزانة العامة، وعدم
استمرار نمط التوزيع السائد، وإيقاف دفع الأموال للميليشيات والكتائب
المسلحة بأية حجة، ما لم تخضع فعليا لسيادتها ولسلطة الجيش. وللحكومة عنصر
قوة آخر لم تبادر حتى الآن إلى استخدامه، وهو قوة الرأي العام. وباستثناء
المؤتمرات الصحفية المتكررة لرئيسها، لم تتمكن الحكومة حتى الساعة من
توجيه قوة الرأي العام الهائلة لمصلحة الاستقرار وبناء الدولة. ولا شك في
أن أبسط شروط النجاح تبدأ بإطلاع الرأي العام على حقيقة ما يجري وكشف مواقف
القوى المختلفة؛ وذلك كفيل بتحفيز الشارع الذي غيبته سنوات حكم القذافي عن
الشأن العام. وهذا ما تحتاج الحكومة إدراك قوته، بدل التعلل بما قاله
رئيسها يوم 14 أغسطس/آب الحالي بأن الدولة ضعيفة وأن الوقت كفيل بتجاوز
التحديات.
المصدر: مكرز الجزيرة للدراسات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق