صحيفة الشرق الأوسط- محمود الناكوع- ما تعيشه بلدان الربيع العربي من
اضطرابات واعتداءات على الأنفس والمؤسسات والممتلكات وعلى سلام المجتمع
بصورة عامة، هو أكبر دليل على غياب ثقافة الدولة عند المواطنين في
تلك البلدان، وهذا أمر معروف، وله أسبابه ومبرراته، ومنها تغول دولة
الاستبداد التي كانت دولة بوليسية وظالمة، ولذلك لم تهتم بمشروع بناء
الدولة الإنسانية العادلة، ولعل أفضل مثال على ذلك الغياب ما نراه ونسمع
عنه في ليبيا - إحدى دول الربيع العربي التي تتطلع إلى بناء دولة القانون.
إن ما يعانيه الشعب الليبي من مشكلات سياسية وأمنية منذ إسقاط النظام
الاستبدادي السابق يرجع في كثير من أسبابه إلى غياب حضور أسس الدولة
وهيبتها في ذهن المواطن الليبي منذ أربعين عاما على أقل تقدير.
فالثقافة التي كانت سائدة في عهد الديكتاتور القذافي هي ثقافة نافية للدولة ومؤسساتها، وكانت البداية من مرحلة تشكيل اللجان الشعبية والثورية (العقدان السابع والثامن من القرن الماضي) وهجومها على بقايا مؤسسات الدولة التي بنيت في العهد الملكي (1951 - 1969)، حيث انقضت تلك اللجان على كل المؤسسات بطرق فوضوية وبترتيب ودفع من السلطة العسكرية الحاكمة، وانتشرت الفوضى وتولى من لا خبرة له ولا معرفة له إدارة تلك المؤسسات، وعانى المواطن الليبي مرارات لا حصر لها، ولا تزال آثارها باقية وستستمر لبعض الوقت، وبعد نجاح ثورة 17 فبراير (شباط). وفي بداية تأسيس المجالس السيادية والحكومات المؤقتة، انطلقت محاولات البناء من الصفر، من حيث التشريعات، ونظم إدارة المرحلة.
وعلى عجل وباجتهادات تنقصها الخبرة والممارسة المتخصصة، كانت عملية البناء خاضعة للتجربة مع بعض الاستشارات من هنا وهناك. وحدثت أخطاء عدة في القوانين والقرارات والإنفاق المالي العام، وأصبحت تلك الأخطاء تشكل عقبة في طريق الحكومات التي تعمل من دون إدارة مؤهلة للقيام بالواجبات العملية اليومية ومن دون وجود وعي عام يقدر صعوبات المرحلة ويتفهم حقيقة تلك الصعوبات ويتعاون مع مؤسسات الحكومة الضعيفة على ضمان الحد الأدنى من النظام واحترام الأولويات والاستجابة لنداءات الجهات المسؤولة. أصبح الجميع يطالب بحقوقه الضائعة حقيقة أو ادعاء، وأصبحت الكثرة تظن أن نجاح الثورة وذهاب العهد السابق هو بداية هبوط الحلول لكل مشاكلهم المتراكمة بمعالجات سحرية. وعندما اكتشفوا الواقع وعرفوا أن مطالبهم لا يمكن أن تتحقق خلال شهور، صبوا جام غضبهم على الحكومات المؤقتة ومؤسساتها المتهالكة، وبالغوا في غضبهم وصاروا لا يحترمون رئيسا ولا وزيرا ولا مديرا؛ أي لا احترام لمكونات الدولة ولا هيبة في أذهانهم وفي ثقافتهم لمعاني تلك الدولة ورجالاتها، لا شك في أن ثقافة أربعين عاما من الفوضى والفقر والاستجداء وتفشي أنواع الفساد هي أكبر عقبة في طريق بناء الدولة ومؤسساتها، وهي أكبر عقبة في تحقيق الأمن والاستقرار السياسي.
وقد زاد انتشار السلاح من سوء السلوك العام لدى عدد من الشباب الذين استغلوا ضعف مؤسسات الحكومة محاولين فعل ما يريدون من دون إدراك لعواقب ما يرتكبون من جرائم وأخطاء فادحة. يقول البعض إن كل الثورات تمر بمثل هذه الصعوبات وهذه الأخطاء وربما أكثر، ومن درس تاريخ الثورات في أوروبا وغيرها يعرف كم من الضحايا سقطوا وكم من الحروب الأهلية التي اندلعت واستمرت لسنوات كثيرة. والعاقل من اتعظ بغيره، فليس من الضروري أن يعيد الإنسان في قرن الاتصالات والمعلومات أخطاء ومصائب قرون مضت. ونحن أصحاب دين وقيم تحرم القتل والاعتداء حتى بالكلمة الجارحة. ومن سوء التفكير والتدبير أن يتجرأ البعض باسم الدين على قتل الآخرين من دون سند صحيح أو إجراءات مشروعة وصحيحة. كل ما تمر به بلدان الربيع العربي يرجع في عمومه إلى فترات الاستبداد التي ألغت الدولة ومؤسساتها، وإن اختلفت ظروف كل بلد من تلك البلدان، وظروف ليبيا هي الأسوأ. وعندما انهارت السلطة البوليسية في ليبيا لم نجد جيشا مثل ما هو في تونس أو مصر ولم نجد مجالس تشريعية، ولم نجد مؤسسات إعلامية، ولم نجد قيادات سياسية مدربة وذات خبرات ولم نجد أسسا إدارية، والآن هناك محاولات وطنية لبناء مؤسسات، وهناك دعم ومساعدات دولية لبناء دولة حديثة، وما لم تعالج مشكلة ثقافة رفض الدولة وقوانينها ونظمها فلا أمل في الاستقرار والتنمية، ولا شك في أن الدور الأهم سيكون للتعليم والإعلام، وإذا كان التعليم يتطلب وقتا أطول فإن الإعلام بكل ألوانه وأدواته يستطيع أن يختصر الطريق إذا ارتقى إلى مستوى يمكنه من أداء الرسالة، بحيث يستلهم أهداف الثورة وينسجم مع سياسة وخطط الحكومة ومؤسساتها ويعمل على ترسيخها بلغة واضحة وبرامج وتحليلات موضوعية بعيدة عن الحسابات النفعية والأنانية.
ومع الاهتمام ببناء الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الخاصة بالمعلومات، فمن الضروري أيضا الاهتمام بالإعلام باعتباره الأداة الفعالة المؤثرة في الرأي العام، ومن مسؤوليات «المؤتمر الوطني» وكل المؤسسات السيادية العربية والحكومات تنظيم العمل الإعلامي، لأنه هو الوسيلة الأولى لنشر وتعميق ثقافة الدولة الحديثة، ومنها قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم دولة القانون التي تحقق المساواة والعدل والنظام. إن أكبر مكسب للثورات العربية الشعبية هو مكسب الحرية التي تملأ كل الأجواء، وهو الذي سيقود في نهاية المسيرة إلى بناء الدولة الحديثة، وستزول كل المعوقات بفضل إرادة الأحرار الشجعان التي لا تخاف ولا تهاب الموت والاغتيالات، وبالأبطال في ميادين البناء وبالشهداء تبعث الشعوب وتبنى الدول.
* سفير ليبيا لدى بريطانيا
فالثقافة التي كانت سائدة في عهد الديكتاتور القذافي هي ثقافة نافية للدولة ومؤسساتها، وكانت البداية من مرحلة تشكيل اللجان الشعبية والثورية (العقدان السابع والثامن من القرن الماضي) وهجومها على بقايا مؤسسات الدولة التي بنيت في العهد الملكي (1951 - 1969)، حيث انقضت تلك اللجان على كل المؤسسات بطرق فوضوية وبترتيب ودفع من السلطة العسكرية الحاكمة، وانتشرت الفوضى وتولى من لا خبرة له ولا معرفة له إدارة تلك المؤسسات، وعانى المواطن الليبي مرارات لا حصر لها، ولا تزال آثارها باقية وستستمر لبعض الوقت، وبعد نجاح ثورة 17 فبراير (شباط). وفي بداية تأسيس المجالس السيادية والحكومات المؤقتة، انطلقت محاولات البناء من الصفر، من حيث التشريعات، ونظم إدارة المرحلة.
وعلى عجل وباجتهادات تنقصها الخبرة والممارسة المتخصصة، كانت عملية البناء خاضعة للتجربة مع بعض الاستشارات من هنا وهناك. وحدثت أخطاء عدة في القوانين والقرارات والإنفاق المالي العام، وأصبحت تلك الأخطاء تشكل عقبة في طريق الحكومات التي تعمل من دون إدارة مؤهلة للقيام بالواجبات العملية اليومية ومن دون وجود وعي عام يقدر صعوبات المرحلة ويتفهم حقيقة تلك الصعوبات ويتعاون مع مؤسسات الحكومة الضعيفة على ضمان الحد الأدنى من النظام واحترام الأولويات والاستجابة لنداءات الجهات المسؤولة. أصبح الجميع يطالب بحقوقه الضائعة حقيقة أو ادعاء، وأصبحت الكثرة تظن أن نجاح الثورة وذهاب العهد السابق هو بداية هبوط الحلول لكل مشاكلهم المتراكمة بمعالجات سحرية. وعندما اكتشفوا الواقع وعرفوا أن مطالبهم لا يمكن أن تتحقق خلال شهور، صبوا جام غضبهم على الحكومات المؤقتة ومؤسساتها المتهالكة، وبالغوا في غضبهم وصاروا لا يحترمون رئيسا ولا وزيرا ولا مديرا؛ أي لا احترام لمكونات الدولة ولا هيبة في أذهانهم وفي ثقافتهم لمعاني تلك الدولة ورجالاتها، لا شك في أن ثقافة أربعين عاما من الفوضى والفقر والاستجداء وتفشي أنواع الفساد هي أكبر عقبة في طريق بناء الدولة ومؤسساتها، وهي أكبر عقبة في تحقيق الأمن والاستقرار السياسي.
وقد زاد انتشار السلاح من سوء السلوك العام لدى عدد من الشباب الذين استغلوا ضعف مؤسسات الحكومة محاولين فعل ما يريدون من دون إدراك لعواقب ما يرتكبون من جرائم وأخطاء فادحة. يقول البعض إن كل الثورات تمر بمثل هذه الصعوبات وهذه الأخطاء وربما أكثر، ومن درس تاريخ الثورات في أوروبا وغيرها يعرف كم من الضحايا سقطوا وكم من الحروب الأهلية التي اندلعت واستمرت لسنوات كثيرة. والعاقل من اتعظ بغيره، فليس من الضروري أن يعيد الإنسان في قرن الاتصالات والمعلومات أخطاء ومصائب قرون مضت. ونحن أصحاب دين وقيم تحرم القتل والاعتداء حتى بالكلمة الجارحة. ومن سوء التفكير والتدبير أن يتجرأ البعض باسم الدين على قتل الآخرين من دون سند صحيح أو إجراءات مشروعة وصحيحة. كل ما تمر به بلدان الربيع العربي يرجع في عمومه إلى فترات الاستبداد التي ألغت الدولة ومؤسساتها، وإن اختلفت ظروف كل بلد من تلك البلدان، وظروف ليبيا هي الأسوأ. وعندما انهارت السلطة البوليسية في ليبيا لم نجد جيشا مثل ما هو في تونس أو مصر ولم نجد مجالس تشريعية، ولم نجد مؤسسات إعلامية، ولم نجد قيادات سياسية مدربة وذات خبرات ولم نجد أسسا إدارية، والآن هناك محاولات وطنية لبناء مؤسسات، وهناك دعم ومساعدات دولية لبناء دولة حديثة، وما لم تعالج مشكلة ثقافة رفض الدولة وقوانينها ونظمها فلا أمل في الاستقرار والتنمية، ولا شك في أن الدور الأهم سيكون للتعليم والإعلام، وإذا كان التعليم يتطلب وقتا أطول فإن الإعلام بكل ألوانه وأدواته يستطيع أن يختصر الطريق إذا ارتقى إلى مستوى يمكنه من أداء الرسالة، بحيث يستلهم أهداف الثورة وينسجم مع سياسة وخطط الحكومة ومؤسساتها ويعمل على ترسيخها بلغة واضحة وبرامج وتحليلات موضوعية بعيدة عن الحسابات النفعية والأنانية.
ومع الاهتمام ببناء الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الخاصة بالمعلومات، فمن الضروري أيضا الاهتمام بالإعلام باعتباره الأداة الفعالة المؤثرة في الرأي العام، ومن مسؤوليات «المؤتمر الوطني» وكل المؤسسات السيادية العربية والحكومات تنظيم العمل الإعلامي، لأنه هو الوسيلة الأولى لنشر وتعميق ثقافة الدولة الحديثة، ومنها قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم دولة القانون التي تحقق المساواة والعدل والنظام. إن أكبر مكسب للثورات العربية الشعبية هو مكسب الحرية التي تملأ كل الأجواء، وهو الذي سيقود في نهاية المسيرة إلى بناء الدولة الحديثة، وستزول كل المعوقات بفضل إرادة الأحرار الشجعان التي لا تخاف ولا تهاب الموت والاغتيالات، وبالأبطال في ميادين البناء وبالشهداء تبعث الشعوب وتبنى الدول.
* سفير ليبيا لدى بريطانيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق