سلسلة
جبال العوينات على الحدود الليبية السودانية المصرية، والتي تضم في
ثناياها ثروة من الذهب الخام، تصبح قبلة للمنقبين الذين تنفي المصادر
الرسمية وجودهم.
لم
يتمكن تاجر الذهب الحاج صالح الزيداني من شراء قطعة من الذهب الخام عرضها
عليه رجل سوداني دخل محله ذات يوم، رغم وجود مبلغٍ ماليٍّ كبيرٍ بخزنة
المحل، وذلك لعجزه عن تقدير ثمنها، فالقطعة نادرة ومن الذهب الخام الذي لم
يخضع لأي عملية إعادة تصنيع... حيرة الحاج صالح لم تخفَ
على البائع، الذي أجاب على تساؤله عن مصدر هذه الثروة قائلاً "لقد جلبتها
من جبال العوينات"، وهي سلسلة جبال تقع في منطقة الحدود بين ليبيا والسودان
ومصر يبلغ ارتفاعها 1934 متراً، وتمثل الحد الفاصل بين الدول الثلاث في
تلك المنطقة... وأوضح الرجل السوداني أنها المرة الأولى
التي يحاول فيها بيع الذهب في مدينة سبها – في الجنوب الغربي من ليبيا،
وحيث محل الحاج صالح –، بل اعتاد تسويق بضاعته داخل السودان.
قطع رزق
حين التقى موقع "مراسلون" الزيداني كان مستاءً لفقدانه هذه القطعة
من الذهب الخالص، لتنطلق بعدها عملية بحثنا عن معلومات أكثر من عين
المكان، وكانت الوجهة مدينة الكفرة (في الجنوب الشرقي من ليبيا) وهي النقطة
المأهولة الأقرب (350 كم شمال شرق موقع التنقيب). لم يكن
الأمر غريباً على سكان المدينة، فقد أكد الكثيرون تيقنهم من وجود معدن
الذهب بمنطقة جبال العوينات، والتي يقع 60% منها داخل الحدود الليبية، ولكن
تخوف القائمين بعملية استخراج الذهب من قطع مصدر رزقهم كان العائق أمام
تزويدنا بصور للمنقبين هناك. ياسر الزوي قال إنه حالياً
بصدد البحث عن جهاز الكشف عن الذهب الذي يعمل بتقنية (GPS)-وهو نظام تحديد
الموقع العالمي- الذي يستخدمه أغلب المنقبين، وذلك استعداداً للتوجه إلى
جبل العوينات للتنقيب مع مجموعة مشتركة من ليبيا والسودان كان قد اتفق معهم
قبل قيام الثورة ويشرعون الآن في تنفيذ اتفاقهم. يعلق الزوي "أجهزة الكشف
عن الذهب بدأت تتوفر داخل البلاد وبأسعار مناسبة".
ضربة قاتلة
أما صالح الشريف فقد تردد قبل الحديث عن الموضوع، لأنه يرى أن
طرحه عبر وسائل الإعلام من شأنه أن يكون "ضربة قاتلة" بالنسبة له وقطع باب
رزق يدر عليه مالاً وفيراً، بحسب قوله، كما يعتقد أن نشر صورة له أثناء
الحفر كفيلة بالزج به في السجن. الشريف الذي كان يستعد لمغادرة الكفرة
متوجهاً إلى الجبل حاملاً الزاد واحتياجات شركائه الذين تركهم خلفه يعملون،
قال لـ" مراسلون" بعد أن اطمئن على عدم امتلاكنا صوراً للموقع او للأشخاص
"امتهنت هذه الحرفة منذ سنتين، ونحن نذهب خلسة إلى مواقع التنقيب بعيداً عن
أعين الجهات الرقابية، فالمنطقة التي نحفر فيها تقع داخل الأراضي الليبية
وليس السودانية، بينما البيع يتم في السودان، ليس هناك سوق لهذا النوع من
الذهب داخل ليبيا". كلام الشريف هذا يؤكد ما تحدث عنه الحاج صالح الزيداني
حول عجزه عن تقدير قيمة قطعة الذهب، التي لم ير مثلها من قبل وهو يعمل طول
عمره بهذه المهنة.
منطقة مسكونة
حتى صلاح بو الرقيق آمر سرية صقور الكفرة، قال لـ" مراسلون" إنه
شخصياً كان يفكر في الانخراط بهذا العمل قبل الثورة، ولكن انشغاله بتحرير
البلاد واضطلاعه بمسؤوليات أمنية بعد التحرير جعله يصرف النظر عن ذلك. بو
الرقيق اعتبر الأمر خطيراً جداً ويتطور سريعاً فقد "بدأت عمليات التنقيب
على يد مجموعة من السودانيين الذين اجتازوا الحدود ودخلوا الأراضي
الليبية"، لكنه اليوم – بحسب قوله – تحول إلى تجمع بشري كبير من أبناء
البلدين، وقام من فيه بحفر بئر ماء وإنشاء سوق لتوفير ما يلزمهم من خضراوات
ومواد غذائية ووقود وقطع غيار لآلاتهم. ويعتبر أن هذا
الموقع من شأنه أن يكون موقعاً ممتازاً للمهاجرين غير الشرعيين، الذين
سيتمكنون بفضله من الحصول على ما يحتاجون من وقود ومأكل أثناء عبورهم
الصحراء الليبية، وصولا لأقرب نقطة على الساحل الليبي.
كما لا يغفل ما قد يترتب عليه من مشاكل في المستقبل مع دولة السودان، التي
ربما تعتبر تجاهل ليبيا لاختراق حدودها ضعفاً يشجعها على اعتبار المنطقة
داخل الحدود السودانية، بحسب تعبيره.
عشرات الكيلوجرامات
وعن طرق التنقيب التي خبرها صلاح جيداً حين كان يعتزم امتهان هذه
المهنة يتحدث لـ" مراسلون"، "بدأ السودانيون بالتنقيب عن معدن الذهب
تحديداً في وادٍ يقع بالسودان ويسمى وادي رهب، وهو بحسب صلاح موجود بمنطقة
الحمرا شمال غرب السودان ويبعد حوالي 150 كيلومترا عن الحدود الليبية. ولأن
الذهب في الأرض عبارة عن عروق متسلسلة، فقد تتبع المنقبون المعدن مع الوقت
حتى وصلوا إلى أعلى مكان يمكن أن تستخرج منه أكبر كميات، وهو جبل يقع داخل
الأراضي الليبية ويطلق عليه اسم (جبل كسو)". بحسب بو
الرقيق فإن المنقبين يتحصلون على كميات تقدر بعشرات الكيلوجرامات من هذا
الجبل وذلك بفضل تطور تقنيات البحث التي تعدت وسائل التنقيب بالآلات
اليدوية لتصل إلى الاستعانة بالآليات الثقيلة، يقول إن "هناك أكثر من 64
جرافة تعمل بالمكان"، ويؤكد "رأيت بأم عيني مرة قطعة ذهب تزن إحدى عشر كيلو
جراماً عند أحد السودانيين".
شركات وتصاريح
بل ويذهب أبعد من ذلك حين يقول بأن هناك مجموعات تستعين بشركات
صينية وتركية في عمليات البحث، وأن الأمر قابل للتطور أكثر مع تزايد أعداد
المنقبين وانتشار المخيمات، خاصة وأن المنقبين السودانيين لديهم تصاريح من
الدولة السودانية للتنقيب عن الذهب، وقد خصصت لهم مصرفاً في مدينة دنقلة
لبيع بضاعتهم. ويصفهم بو الرقيق قائلاً "طبيعة المنقبين مسالمة جداً، هم لا
يفتعلون أية مشاكل، ولا همّ لهم سوى الحصول على الذهب". بو الرقيق يقر
بمسؤوليته كآمر لإحدى السرايا المكلفة بحماية المدينة عن مكافحة هذه
الظاهرة التي يدرك أبعادها جيداً، ولكنه يبرر عدم اتخاذه هو أو الجهات
المسؤولة بالمدينة أي إجراء بضعف إمكانياتهم العسكرية، وغياب أي غطاء من
الدولة لما قد يقومون به من تحركات. يقول صلاح
"إمكانياتنا لا تؤهلنا لتأمين المدينة والمنطقة الحدودية في ذات الوقت،
لذلك نرى أنها مسؤولية الدولة – ممثلة في جهاز حرس الحدود – وليس
مسؤوليتنا".
تشكيك وتخوف
من جانبه شكك مدير مكتب أمن المعلومات بالمجلس المحلي لمدينة
الكفرة، علي بو الرقيق أن يكون المنقبون يحفرون في الأراضي الليبية، وقال
في حديثه لـ "مراسلون"، "الموجودون بالمناطق الحدودية لم يدخلوا التراب
الليبي، وإن وجدوا فهم في الأراضي السودانية، ثم إن الصحراء المترامية
الاطراف تجعل من الصعوبة تحديد الموقع هل هو في الأراضي الليبية أم
السودانية إلا عن طريق هاتف الثريا". إلا أن مدير المكتب
عبر لـ"مراسلون" عن قلقه من إخراج الموضوع للإعلام، وتخوفه من "خروج السكان
للتنقيب في جبل العوينات وعدم استطاعة الجهات الأمنية السيطرة عليهم"،
وربما يكون ذلك ما دفعه لنفي الموضوع.
إنكار المسؤولين
عقب سماعنا كل ذلك كان لزاماً علينا معرفة دور الدولة الليبية
وأجهزتها الأمنية في تحري الموضوع والسيطرة عليه إن كان يشكل خرقاً للقانون
أو لسيادة الدولة، وفي هذا السياق صرح المتحدث باسم وزارة الدفاع عادل
البرعصي لموقع" مراسلون" أنهم لم يتخذوا أي إجراء تجاه الموضوع لأنه يقع
ضمن مسؤوليات جهاز حرس الحدود، والذي نفى بدوره أي علم له بوجود نشاط من
هذا النوع في المنطقة المذكورة. وكشف البرعصي في حديثه عن
أنباء يتم تداولها في رئاسة الوزراء حول إمكانية إبرام اتفاق بين السودان
ومصر وليبيا في مجال استكشاف واستخراج المعادن من منطقة جبل العوينات.
لكن وزير الاقتصاد الليبي، مصطفى بو فناس نفى علمه بالموضوع جملة وتفصيلاً
من خلال تصريحه لـ "مراسلون"، "لا علم له بوجود منقبين في المنطقة
المذكورة، ولا عن إمكانية إجراء اتفاق ثلاثي للتنقيب عن الذهب أو غيره"،
مشيراً إلى إمكانية أن يكون للوزير السابق علم بذلك. قد
يكون نفي الجهات الرسمية لوجود هذا النوع من النشاط في جنوب البلاد مبني
على معلومات دقيقة، أو يستند على تخوف من حدوث فوضى أو توسع لدائرة
الاختراقات في هذا المجال. ولكن هذا النفي لا يغير حقيقة
أن السودان تمكن من تصدير نحو 42 طناً من الذهب في عام 2012، بعائد بلغ نحو
2.7 مليار دولار، مما ساهم في رفع الناتج الإجمالي المحلي بنسب عالية.
بينما تشير بيانات تقرير مجلس الذهب العالمي إلى أن احتياطي ليبيا من خام
الذهب البالغ نحو 144 طناً، يضعها في المرتبة الثانية أفريقياً والرابعة
عربياً والرابعة والعشرين عالمياً، في غياب أي مشاريع منظمة أو مرخصة من
قبل الدولة لاستخراج هذه الثروة والاستفادة منها على المستوى الوطني.
نقلا عن "مراسلون"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق