د. فوزي بن عمران* - ليبيا المستقبل / حرية التعبير من أبجديات
الديمقراطية، فإذا عبّر المواطن عن الرأي ولم تستجب السلطة التشريعية ولا
السلطة التنفيذية، اتجه المواطن إلى التظاهر، فإن لم يجدِه ذلك نفعاً لجأ
إلى الاعتصام والإضراب والعصيان المدني. وأريد هنا أن أضرب مثلاً حياً
يعلمه على أقل تقدير خمسين ليبياً وأنا منهم.
عام 1970 كنت من بين
خمسين من الطلبة والطالبات الناجحين بتفوق من الثانوية العامة والذين كان
من المقرر تحقيق رغباتهم في إيفادهم إلى الخارج لدراسة الطب، واصطدمت
رغبتهم بقرار أصدره بشير هوادي (أحد أعضاء انقلاب سبتمبر المشؤوم ووزير
التربية والإرشاد القومي) بأن يتوجهوا إلى كلية العلوم بطرابلس لدراسة
السنة الإعدادية، ولكن اكتشفنا بعد عدة أشهر من الدراسة بأن ما ندرسه لا
يتماشى مع المنهج المطلوب، واكتشفنا أنه لا نية لافتتاح كلية الطب العام
المقبل. قابلنا المسؤولين في الجامعة ابتداءً من وكيل كلية العلوم وعميدها
وعميد كلية الطب إلى رئيس الجامعة فلم نصل إلى نتيجة، فلما باءت مرحلة
التعبير عن الرأي والمطالبة الشفوية بالفشل، تظاهرنا وأضربنا عن الدراسة،
ولكن لم يعبأ بنا أحد، بعد ذلك اعتصمنا فلم يكترث بنا أحد، فقررنا الذهاب
إلى معسكر باب العزيزية معقل العقيد المقبور امعمر القذافي (ذلك قبل أن
يؤلهه زبانيته وتضله بطانته ويغويه شيطانه)، وفعلاً قابله وفد من الزملاء،
وفعلاً تحركت الأمور بعد أن أصدر تعليماته وتغيّر المنهج الدراسي وأنشئت
كلية الطب في بنغازي كما كان مقرراً لها. لم يتحقق ذلك بسبب التعبير عن
الرأي، ولم يحققه التظاهر ولا الاعتصام، ولكنه تحقق عندما وصل الأمر إلى
صاحب القرار واستمع لصوت العقل والنطق والحق، وتكونت لديه النية لتلبية
مطلبنا المشروع.
حتى أفوت الفرصة على من يصطاد في الماء العكر، ولكي
لا يسيء من لا يعرفني فهمي، أقول أنني شاهد على جرائم العقيد المقبور
وزبانيته وبطانته خلال اثنتين وأربعين سنة، فما هي إلاّ سنة أو اثنتين بعد
انقلاب سبتمبر المشؤوم حتى بدأ في سياسة القمع والاستبداد، وما لبث إن حرم
التظاهر والاعتصام، بل حرّم حتى الرأي المخالف (لا أريكم إلاّ ما أرى)،
وقتل ونكّل بالشعب الليبي حتى استحق نهايته على أيدي ثوار 17 فبراير
بجدارة. ولكنني ذكرت ما جرى مثلاً شروداً أريد إسقاطه على حالة الحكومة
الليبية والمؤتمر الوطني في تعاملهم مع حرية التعبير ومع المظاهرات
والاعتصامات. ألم يكن يقول: الذي لديه أي نقد أو اعتراض فليتوجه إلى
المؤتمرات الشعبية! ألا يصب ما يقولونه الآن للشعب الليبي في السياق نفسه!
جميعنا
رأى وسمع كيف تعامل المسؤولين في ليبيا مع المتظاهرين والمعتصمين في حوادث
كثيرة، لقد تركوهم في ميدان الشجرة في بنغازي أسابيع في برد الشتاء القارص
دون أن يلتفت إليهم أحد، وتركوهم في ساحة الشهداء وميدان الجزائر في
طرابلس دون اكتراث، وأتاحوا الفرصة للذين يتاجرون ويتكسبون على حساب علاج
الجرحى والمبتورين، وقبل أن يلتفتوا إلى المطالب الأساسية للشعب الليبي
المحروم اهتموا بأنفسهم ورواتبهم ومميزاتهم، وعملوا بالمثل القائل: (الحرة
أول ما تزرب بيتها)، ونسوا أنهم في موقع مسؤولية يحتم عليهم اتقاء شح
أنفسهم ووضع مصلحة الشعب على قمة سلم أولوياتهم. لا جدوى من حرية الرأي إذا
لم يجد ذلك الرأي أذنا صاغية من الطرف الآخر، ولا فائدة من التظاهر
والاعتصام إذا لم يُستجب للمطالب التي تُظوهر وأعتصم من أجلها.
السواد
الأعظم من الشعب الليبي يطالب بقانون العزل السياسي، ولكن يبدو أن ذلك
المطلب يتعارض مع مصلحة كثيرين من الأزلام الذين تسللوا إلى السلطتين
التشريعية والتنفيذية في ليبيا، وإلاّ لماذا التلكؤ؟ لا يفترض أن يضطر
الليبيين للجهر بأصواتهم للمطالبة بالحقوق التي تعد من البديهيات. لقد قامت
ثورة 17 فبراير ضد القذافي وأزلامه وزبانيته وبطانته ومن أعانه على البقاء
في الحكم طوال 42 سنة. ولكن الذي حدث أننا نسمع كل يوم بمن يتسلل منهم إلى
السلطة. كثرت المغالطات والدجل السياسي، عن سوء نية في معظم الأحوال وعن
سفه في قليل منها. أعجب المغالطات مقولة: أن كل الليبيين عملوا مع القذافي!
أتخادعون الناس أم تخادعون أنفسكم؟ سمعت البعض يقول: هل يجوز أن نعزل
المستشار مصطفى عبد الجليل؟ يريدون استخدامه (باراكولبي) في محاولة للنجاة!
ألم يسمع هؤلاء ويرون الرجل وهو يعزل نفسه بنفسه في بث مباشر على
الفضائيات، وقد وتعهد ووفى بعهده، على الرغم من أنه أنظف وأشرف الذين عملوا
في حكومات العقيد المقبور، بل أنه من أنظف الناس الذين عرفتهم على
الإطلاق.
عبّر الناس عن استيائهم من تسلل الأزلام إلى السلطة
على صفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي على صفحات الإنترنت، وطالبوا
بإقرار قانون العزل السياسي، ثم تظاهر كثير من الليبيين من أجل إقراره بعد
أن تأخر، ثم لم يجدوا مناصاً من الاعتصامات المتكررة. فماذا بعد ذلك؟ هل
يتعيّن عليهم الصمت أم ماذا؟ عيش بالمنى يا كمون نين ايجيك الشرابي؟ إلى
أين ينبغي أن يتجه الليبيين بعد ذلك؟ هل نسي أعضاء السلطتين في ليبيا ما حل
بالعقيد المقبور بسبب غضب الشعب؟ أم يظنون أنهم في مأمن لأنهم ينتوون
مجابهة غضب الناس بالقوة؟ القوة جعلت العقيد المقبور يظن أنه في مأمن من
غضب الشعب ولكننا شاهدنا ما حل به عندما أراد الشعب الليبي الحياة.
المعتصمون
الذين حاصروا مقر انعقاد المؤتمر الوطني في الخامس من مارس اضطروا إلى ذلك
اضطراراً بعد أن قوبلت مطالبهم المشروعة بــ (أذن من طين وأخرى من عجين)
كما يقول المثل الليبي، وبعد أن وعدهم المؤتمر فأخلف. المفارقة العجيبة أن
يستصرخ أحد قيادات المؤتمر الوطني الشعب الليبي ليأتي وينقذهم من حصار
المعتصمين! تباً لسياسة الكيل بمكيالين! ألم يصدر هذا المؤتمر الوطني ذاته
قانوناً يقيد حرية التظاهر؟ أم أن التظاهر حلال في مصلحتكم حرام في مصلحة
الشعب؟
التطبيق العادل للقوانين والنظم واللوائح التي تضمن
الحقوق يستهدف تجنيب الناس الاضطرار إلى أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم. إذا لم
يسن أعضاء السلطة التشريعية القوانين التي تصب في مصلحة الشعب، وإذا لم يقم
أعضاء السلطة التنفيذية بتطبيقها فلا يلومون إلاّ أنفسهم. وإذا لم يقف
الشعب الليبي لانتزاع حقوقه فإن حكم الطاغوت سيستنسخ من جديد، وعندها لن
نلوم إلاّ أنفسنا؛ فحتى امعمر القذافي لم يولد طاغوتاً وإنما تحول إلى
طاغوت بعد بضع سنوات من حكمه، وقد قيل في المثل: سئل فرعون: من فرعنك فقال
أنتم؛ لأنني كنت آمركم فتطيعون. إذا حدث ذلك فإن الأجيال القادمة سوف
تلعننا لأننا فرطنا في مستقبلهم، كما فرط آخرون منذ خمسين عاماً في
مستقبلنا عندما أعطوا الفرصة للملازم امعمر القذافي ليقفز على السلطة ويدمر
البلاد وينكل بالعباد، وكل ما يجري الآن مترتب على ذلك التفريط الذي لا
ينبغي أن يُحتفى به ولا بمن تسبب فيه.
مصراوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق