يقول المقاتل الإسلامي محمد قويدر
الذي أمضى أكثر من عشر سنوات في أحد سجون القذافي وأصبح الان مدير سجن "أبو
سليم" أن اثنين من معذبيه في السابق سجينان عنده الآن، ولكن الجائزة
الأكبر بالنسبة له هو رئيس مخابرات القذافي عبدالله السنوسي.
السجن مجمع ضخم من المباني ذات اللون البيجي تعلوها أكياس من
الرمل وتحيط بها أسوار حافاتها مطرزة بالاسلاك الشائكة، وغالبية حراسه ذوو
لحى كثة طويلة على طريقة الإسلاميين، الذين كان معمر القذافي ورئيس
مخابراته عبد الله السنوسي يضعانهم وراء القبضان في سجون كهذه تحديدًا.
من سجان إلى سجين
ولكن منذ سقوط نظام القذافي أصبح سجن أبو سليم يعبر عن جزاء ما
يلقاه المرء على أعماله. ومدير السجن محمد قويدر مقاتل إسلامي سابق أمضى
أكثر من عشر سنوات في أحد سجون القذافي. وهو يقول إن اثنين من معذبيه
سجينان عنده الآن ولكن الجائزة الأكبر هو السنوسي نفسه.
وأكد قويدر لصحيفة واشنطن بوست أن "من المحال" إرسال مثل هؤلاء
السجناء لمحاكمتهم في الخارج رغم مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتسليهما
السنوسي ومعه سيف الاسلام نجل القذافي بتهمة القتل الجماعي وارتكاب فظائع
اخرى خلال الثورة الليبية في 2011.
شكوك في إجراء محاكمات عادل
واتخذت الحكومة الليبية موقفًا مماثلًا عندما تعهدت بمحاكمة
المتهمين من أركان النظام السابق في ليبيا لتكون محاكمتهم دليلا على نجاح
الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية.
وعلقت المحكمة الجنائية الدولية في الوقت الحاضر مطالبتها بتسليم
سيف الاسلام إلى حين البت في الطعن الذي قدمته الحكومة الليبية بهذا
المطلب. ولكن صحيفة واشنطن بوست نقلت عن خبراء قانونيين تحذيرهم "من
المخاطر التي قد تنشأ إذا اتضح ان الخليط المتناقض من الذين يتنازعون على
دفة القيادة في ليبيا ليسوا مستعدين للالتزام بالقانون الدولي".
ويشير انقلاب الأدوار ليصبح السجين سجانًا والقادة الذين كانوا
مطاردين في السابق أصحاب سلطة اليوم، إلى الفراغ الذي يرى الخبراء
القانونيون أن المحكمة الجنائية الدولية هي التي يجب ان تملأه في بلدان مثل
ليبيا حيث ما زالت هناك شكوك في امكانية اجراء محاكمة عادلة للمتهمين
بارتكاب جرائم حرب.
وبحسب تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الانسان الصادر في شباط
(فبراير) فان غالبية سجناء ليبيا "موقوفون منذ ما يربو على عام بدون تهمة
أو حقوق قانونية بما في ذلك مراجعة ملفاتهم وحقهم في توكيل محام". وأضاف
التقرير أن الموقوفين في بعض مراكز الاعتقال تحدثوا عن "تعرضهم إلى التعذيب
مرات متكررة وعن وفيات في السجن".
حرس وطني جديد
وفي عموم البلاد فان الكثير من الذين يحرسون زهاء 8000 سجين أُلقي
القبض عليهم خلال الثورة وبعدها هم مقاتلون أو سجناء سابقون. ويعمل في
مناصب حساسة في الحكومة الليبية وأجهزتها الأمنية أعضاء سابقون في الجماعة
الليبية الإسلامية المقاتلة التي حاربت نظام القذافي بصورة متقطعة طيلة عقد
التسعينات.
وبادر اعضاء سابقون في هذه الجماعة المتطرفة إلى تشكيل حرس وطني
جديد يسيطر على أجنحة من مجمع سجن أبو سليم الذي يُحبس فيه السنوسي، بحسب
شخصين زارا السجن وتحدثا لصحيفة واشنطن بوست طالبين عدم ذكر اسميهما. ويوجد
سيف الاسلام في سجن آخر في مدينة الزنتان حيث يحرسه الثوار الذين القوا
القبض عليه.
يفتقرون إلى التدريب
وقالت حنان صلاح الباحثة في منظمة هيومن رايتس ووتش التي التقت
قويدر ومسؤولين آخرين في السجن وفي وزارة العدل الليبية إن لا مشكلة في
تولي مقاتلين سابقين ادارة السجون الليبية. ولكن افتقارهم إلى التدريب وعدم
التدقيق في خلفياتهم للتأكد من انهم بلا سوابق من الخروقات وانتهاك حقوق
الانسان هو المشكلة.
قضية شخصية
وبالنسبة لمدير السجن قويدر والعديد غيره فان مهمته أصبحت قضية
شخصية. إذ اعتُقل قويدر في عام 1986 بتهمة التآمر مع خلية جهادية حين كان
ضابطا في جهاز الاستخبارات الخارجية الليبية الذي كان يرأسه السنوسي. ولكن
قويدر (49 عاما) يعتبر نفسه أحد المحظوطين الذي نجوا من مجزرة 1996 التي
قُتل فيها نحو 1200 من نزلاء سجن ابو سليم بأمر من السنوسي نفسه، كما يقول
الليبيون.
ولدى قويدر معرفة فريدة بوقائع مجزرة سجن أبو سليم التي يروى
وقائعها كما حدثت ساعة بساعة استنادا إلى ما سمعه وشاهده من زنزانته، بما
في ذلك تفاصيل تدين السنوسي. وهو بهذه المعرفة يعتبر شاهدًا مهما من شهود
النيابة التي تحقق في انتهاكات النظام السابق. ولكن ما يعرفه يتسبب ايضا في
تعقيد وضعه بوصفه سجان السنوسي.
"الجائزة الكبرى"... إعدام السنوسي
وقال بن ايمرسون المحامي المعروف في مجال حقوق الانسان الذي طلبت
عائلة السنوسي الدفاع عنه، انها "فضيحة" متسائلا "أين تجد في العالم رجلا
بعهدة اشخاص يدَّعون انهم ضحايا الجرائم التي ارتكبها". وأضاف ايمرسون الذي
يعمل مقررًا خاصا لحماية حقوق الانسان والحريات في مفوضية الأمم المتحدة
لحقوق الانسان "لا احد يأخذ امكانية اجراء محاكمة عادلة في ليبيا على محمل
الجد".
ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن ايمرسون قوله ان السلطات الليبية
"تماطل وتلعب" مع المحكمة الجنائية الدولية وليس في نيتها تسليم السنوسي
اليها وان "الجائزة الكبرى لليبيين هي تعليق هذا الرجل من انشوطة حبل".
وتريد ليبيا محاكمة السنوسي بتهمة المسؤولية عن آلاف القتلى والجرحى
والمغيبين خلال الثورة وعدد لا يحصى من الانتهاكات الأخرى في عهد القذافي
بينها مجزرة سجن ابو سليم.
الصندوق الأسود
ولكن حكومات أجنبية ايضا مهتمة بمصير السنوسي. إذ يُشتبه بأنه
مدبر تفجير طائرة بان ام الاميركية فوق قرية لوكربي الاسكتلندية عام 1988
ومقتل 270 شخصا في الحادث. وطلبت فرنسا اعتقال السنوسي بالارتباط مع تفجير
طائرة مدنية عام 1989. وقال رئيس الوزراء الليبي السابق عبد الرحيم الكيب
لصحيفة الغارديان ان السنوسي "هو الصندوق الأسود" لأسرار نظام القذافي.
ولم يُسمح للمحامي ايمرسون بمقابلة السنوسي ولكنه يقول إن لديه
سببا للاعتقاد بأن موكله تعرض للتعذيب. وأكد قويدر إنه لا السنوسي ولا أي
أحد آخر في سجنه تعرض للتعذيب وأضاف أن سجناءه "محظوظون جدا جدا بكونهم
هنا" في عهدته.
وتابع قويدر "التفكير المنطقي يقول انني يجب ان انتقم لأن 1270
شخصا قُتلوا وكثيرين منهم كانوا اصدقائي ولكني لم انتقم". وقال قويدر ان
لدى سجنائه طبيبا يستطيعون مراجعته 24 ساعة في اليوم ويأكلون ما يأكله
حراسهم.
ثقافة التعذيب مستمرة
ويقول وزير العدل الليبي صلاح المرغني ان بعض المحبوسين في سجون
أخرى في ليبيا يرزحون في السجن منذ نحو عامين بلا محاكمة بسبب بطء
التحقيقات ونقص المحققين وأكثر من ذلك نقص محامي الدفاع. وأثار هذا شكوكا
لدى منظمات حقوقية دولية في مراعاة الأصول القانونية وضمان حقوق الموقوفين.
كما نقلت صحيفة واشنطن بوست عن المرغني قوله "للأسف ان ثقافة
التعذيب استمرت بعد الثورة ولدينا سجون خرجت عن السيطرة ولكننا نعمل على
تغيير هذا الوضع".
ويرى المسؤولون الليبيون بمن فيهم المرغني وهو ناشط مخضرم في مجال
حقوق الانسان، ان لمحاكمة الموقوفين في ليبيا قيمة رمزية لبلد يريد ان
يزيل آثار عقود من الاستبداد وان يجد مكانه بين دول العالم الديمقراطية.
وكانت السلطات الليبيبة قدمت في شباط (فبراير) آخر رزمة من
الوثائق لتعزيز طعنها في طلب المحكمة الجنائية الدولية تسليمها سيف الاسلام
القذافي وتأكيد حقها في محاكمته على الأرض الليبية. وقال المتحدث باسم
المحكمة الجنائية الدولية فادي العبد الله ان المحكمة سترد على طعن الحكومة
الليبية في الوقت المناسب. واعلنت ليبيا ايضا انها تعتزم الطعن في أمر
تسليم السنوسي ولكنها لم تفعل ذلك حتى الآن.
وفي حال تثبيت المحكمة اوامرها بتسليم المتهمَين ستكون طرابلس
ملزمة بالتنفيذ وإذا رفضت يجوز للمحكمة ان تحيل القضية إلى مجلس الأمن
الدولي.
ولكن العديد من المسؤولين الليبيين ومنهم قويدر متمسكون بموقفهم.
وقال قويدر ان سيف الإسلام القذافي وعبد الله السنوسي قد يُعدمان في نهاية
المطالف ولكن محاكمتهما ستكون شفافة على النقيض من كل محاكمات القذافي.
وشدد قويدير على أن المتهمَين مجرما حرب وليبيا لن تسلمهما
للمحاكمة في الخارج بصرف النظر عن الوضع الراهن في البلد. وقال قويدر ان
القيادة السياسية في طرابلس "لن تنظر ابدا" في أمر تسليمهما للمحاكمة خارج
ليبيا.
المصدر: ليبيا المستقبل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق