لقد حاولت خلال الأيام العشر الأخيرة وأنا
اتنقل من طرابلس إلى مصراتة ثم إلى بنغازي أن ألتقي بأكبر عدد ممكن من
القيادات السياسية ،والعسكرية ، والحزبية إضافة إلى قيادات الثوار ،وذلك
للتعرف على ملامح الموقف المرتقب تجاه الدعوات التي انتشرت بخصوص التظاهر
يوم الخامس عشر من فبراير ، وقد حرصت على الاطلاع على البيانات التي دعا
أصحابها إلى هذه المظاهرات كل ذلك من أجل الوقوف على موقف صحيح تجاه هذه
المظاهرات إلتي قد تعيد المجتمع الليبي من جديد إلى نقطة الصفر بعد أن ظننا
أننا تجاوزناها بقليل وذلك إذا خرجت هذه المظاهرات عن معاني التظاهر
السلمي والحضاري المنشود في ليبيا .
وخلاصة القراءة لهذه البيانات على النحو التالي :
1. عدم معرفة الداعين إلى هذه المظاهرات :
فكل البيانات التي وقفت عليها كُتبت دون
الإشارة إلى أصحابها ، أو عناوين الاتصال بهم ، بل بعضها كُتبت باسماء
منظمات ، ومؤسسات المجتمع المدني بشكل عام وعند سؤال عدد من مؤسسات المجتمع
المدني عن ذلك لم نجد لديها أي علم أو خبر .
وهذا أمر مُفسر في الواقع الليبي اليوم إذ
يعلم الجميع أنه لن يلاحق قانونيا لو كتب أي بيان ونسبه لأي أحد فلن يتعرض
لأي مشكلة قانونية ، كيف وهو يرى في كل يوم أشخاصا بأعيانهم يخرجون في
الإعلام ويذكرون أنهم يمثلون لجان في المؤتمر الوطني ، أو في الحكومة ، ثم
يخرج الناطق الرسمي باسم المؤتمر ، أو الحكومة ينكر ذلك ، وتنتهي المسألة
عند هذا الحد دون أدنى متابعة قانونية ، أو نحو ذلك من الإجراءات الزاجرة
عن هذا الإدعاء والتزوير .
المقصود هنا أن عدم معرفة الجهة المسؤولة
عن الدعوة إلى هذه المظاهرة يجعل من غير المعقول لأي ليبي – أو ليبية –
عاقل رشيد أن يسلم نفسه لأناس يقودون مظاهرات دون أن يعرف من هم ، ولذا
فموقفي هنا بشكل واضح هو أن كل من أراد التظاهر السلمي وأراد الخروج فعليه
أن ينظم نفسه ويعلن عن شخصيته الاعتبارية المنظمة لذلك ، وأن يتحمل
المسوؤلية الكاملة عن أفعاله ،ويطالب الدولة برعاية ، وحماية حقه في
التظاهر مع حمايته من كل اختراق أو عبث يخرج المظاهرات عن سلميتها
ومطالبها المشروعة
2.
توجيه السهام بشكل مباشر إلى إسقاط المؤسسة الشرعية المنتخبة وهي المؤتمر
الوطني بحجة التقصير ،وعدم القيام بالواجبات التي من أجلها اختاره الشعب
الليبي في أول انجاز للثورة بعد نجاحها .
وعلى الرغم من إقرار الجميع بالتقصير أو
الخلل الواقع في أداء المؤتمر الوطني إلاّ أن هذه المطالبة بإسقاطه تجعل
المتأمل فيها يستغرب من سقفها المرتفع الذي يصل إلى حل المؤتمر الوطني ،
وشطب وجوده السياسي ، فما هو البديل المطروح عن ذلك حتى لا نقع في الفراغ
السياسي الخطير الذي لا تحتمله ليبيا اليوم ، وهل هناك مؤسسة أخرى يمكن أن
تقوم مقام المؤتمر الوطني لحين البحث عن حل سياسي ، أو انتخاب مباشر لمؤتمر
آخر من جديد .
الجواب الذي جاء في عدد من البيانات المذكورة اشتمل على حلين أحدهما أخطر من الآخر وهما :
الحل الأول : وهو تأسيس مجلس شيوخ منتخب من قبائل ليبيا وتمثل فيه كل قبيلة باثنين من رجالها ، ولا أدري ما هو مصير المرأة فيه.
وأنا استغرب هذا الاقتراح الذي لا يمكن
لأحد فهم مغزاه السياسي . إذ كيف لعاقل أن ينتقل من مؤتمر وطني منتخب على
أساس عقد المواطنة وحقوق المواطن السياسية بغض النظر عن مكوناته القبلية ،
أو الجهوية ، أو الفكرية ، إلى مجلس يراد له أن يقود دولة يرتكز على البعد
القبلي ، مع أن العقلاء اليوم قد اتفقوا على أن عنصر القبيلة إذا خرج من
دائرة العمل الاجتماعي إلى دائرة الممارسة السياسية كان ضرره أعظم من نفعه .
ثم ما هي ضمانات النجاح لهذا الانتخاب الذي سيفرز جسما سياسيا آخر يكون أداؤه أفضل من أداء المؤتمر الوطني .
الحل الثاني الذي دعت إليه البيانات : الدعوة إلى تأسيس مجلس عسكري يحكم البلاد .
ولا أتصور أنه يمكن أن يوافق على ذلك أحد
من الناس ، إذ كيف نستبدل المؤسسة المدنية المنتخبة بمجلس عسكري ، وقد
عانينا كما عانت الأمة من حكم العسكر لعقود طويلة ، فهل يُعقل أن نتصور أن
الحكم العسكري سيكون أفضل من الحكم المدني ،أتصور أن الجواب لا يحتاج إلى
إطالة النظر فيه ،ولذا فهو حل مرفوض جملة وتفصيلاً .
3. قانون العزل السياسي :
وهو قضية حاضرة في أكثر البيانات التي
اطلعت عليها ،والموقف منها يتراوح بين الرفض المطلق ، وبين التحوير
والتفريغ للقانون من كل مقاصده وأهدافه .
وأكاد أجزم أن قضية العزل السياسي هي من
الدوافع الأساسية للداعين إلى التظاهرة حسب ما ظهر لي في البيانات التي
قرأتها ، فهل يخشى الذين لم يعلنوا عن أسمائهم ويدعون إلى هذه التظاهرة من
قانون العزل السياسي ؟ ، هل هذا القانون فيه ما يمنعهم من البقاء في بعض
مفاصل الدولة بعد أن وصلوا إليها على حين غفلة من أهلها ؟ . أترك الجواب
لهم وأتمنى من الجميع أن يستحضروا هذا المعنى في تحليل دوافع وأبعاد الدعوة
إلى التظاهر يوم الخامس عشر من فبراير من قِبل من لم يعرفنا على نفسه،
ولاندرك حقيقة إنتمائه السياسي أو الفكري ، أما الذين صرحوا وعرفوا
بأنفسهم ودعوا للتظاهر، وحددوا مطالبهم ، وتعهدوا بالسلمية فهؤلاء لا
أقصدهم بهذا المعنى .
4. عقدة الأحزاب السياسية :
وهي مسألة واضحة في بعض البيانات إذ تدعوا
وبشكل صريح إلى حل جميع الأحزاب إلى حين صياغة قانون جديد ينظم الأحزاب
والتعددية السياسية .
ولا ندري هل هذه الدعوة نتاج لتراكم فلسفة القذافي من تحزب خان ،وأن الحزبية إجهاض للديمقراطية ؟ .
أم أنها نِتاج للعجلة على رؤية الثمار
السياسية للتعددية الحزبية ، والظن أن كل الأخطاء الحاصلة في أداء المؤتمر
الوطني والحكومة الانتقالية هي بسبب الأحزاب مع إهمال للعناصر الموضوعية
الأخرى في سبب الأزمة ؟.
عموما هذه الدعوة لا يمكن أن نقبل بها ولا
يمكن أن نسوغ لأحد أن يدعو إليها ، وإنما ندعو الجميع أن يقوم بما عليه
من واجبات تجاه هذا الوطن قبل أن يطالب بحقوقه ،كما نطالب جميع الأحزاب أن
تعمل لمصلحة الوطن وأن تُحسن من أدائها وتعاطيها مع الهموم الوطنية
،والمطالب المجتمعية الملحة .
5. الموقف من الثوار :
وهو بين واضح في جميع البيانات وقد كُتبت
المطالب بطريقة متوترة موتورة ، وفي بعضها استفزاز واتهامات طويلة ، ولم
تطرح أي حلول للمشاكل المترتبة على عدم دخول عدد من الثوار تحت المؤسسات
الشرعية للدولة ، بل حرص كُتاب البيانات على وصف كتائب الثوار بالمليشات ،
وطلبوا من الحكومة أن تحاكم قادة الثوار ،وأظن أن كل ذلك مجانب للصواب في
معالجة الهموم الوطنية المشتركة ،وكنت أتمنى أن تنهج البيانات نهج الحكمة
والحجة بدل صناعة بؤر جديدة للصراع داخل ليبيا .
ومع إدراكنا بحجم الأخطاء التي وقع فيها
الثوار ، ولكن مع هذا فنحن نعترف بأنهم وقود الثورة ، وهم مستقبل هذه
البلاد فعلينا أن ندفع بالتي هي أحسن ، وأن ندعم المؤسسات التي قامت من أجل
الأخذ بأيدي الثوار إلى دروب النهضة والبناء ،وعلى رأس هذه المؤسسات هيئة
شوؤن المحاربين .
6. الموقف من فضيلة المفتي الشيخ الصادق الغرياني _ حفظه الله _ .
فكل البيانات التي وقفت عليها تحدثت عن
المفتي بأسلوب مشحون بروح الحنق والبغضاء وتخلوا عن معاني الأخلاق والذوق
الرفيع ، وكنت أتمنى أنهم إذا كانت لديهم ملاحظات على أداء دار الإفتاء أن
يقدموا مقترحا عمليا يُحسن من أدائها ،ويرتقي بها ،ويتجنب الأخطاء إن وقعت
, وأن يُظهروا روح النصيحة ،وحسن الأدب اللائق مع علمائنا ،ولكنهم في
الحقيقة كانوا على خلاف ذلك وتحدثوا بمنطق هجومي لا يحمل في طياته إلاّ
معاني العداوة والبغضاء وهذا كله لايصلح منهجا للبناء والارتقاء بليبيا
التي نحب .
ونحن بدون شك نؤمن بمبدأ النصيحة لكل أحد
ولا يوجد أحد فوق النصح والتناصح – وشيخنا المفتي له موقع بعنوان التناصح –
المهم أن يكون ذلك في إطار من أخلاقنا الإسلامية ، وقيمنا الدينية ، فضلاً
عن أعرافنا الليبية التي تعطي للكبير وللعالم ،ولأهل القرآن حقهم من
الاحترام والتقدير اللائق بهم .
هذه هي المعالم الكبرى في البيانات
الداعية إلى المظاهرات يوم الخامس عشر من فبراير ولا أجدني مضطرا للتأكيد
على ما ذكره عدد من الإخوة من جميع الاتجهات الفكرية ،والسياسية ، وهو
إقرار حق التظاهر السلمي لكل ليبي وليبية شريطة أن يكون ذلك في إطار من
الالتزام بشروط نجاح هذه المظاهرات ، والتي أولها المحافظة على مؤسسات
الدولة العامة من أي تخريب، فضلا على عدم الانجرار لكل ناعق مخرب يدعو
للفساد في الأرض ، أو يحرض على قتل أو اعتداء على أي أحد كائنا من كان ،
كما أنني أعطف دعوتي على دعوات إخواني من ضرورة قيام الدولة بواجبها في
حماية سلمية المظاهرات من أي اختراق ، أما على المستوى الفردي فلا شك أننا
ندعوا من يخرج في هذه المظاهرات أن ينتبه إذا رأى أو سمع من يأمر بفساد ،
أو تخريب أن ينصح ويحذر، فإن عجز فلا أقل من أن ينصرف إلى بيته راشداً
سالما من كل أذي ملتزما بقوله النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :”
الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ “.
المنارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق