مع مرور سنتين على ثورة 17 شباط (فبراير) 2011، تقف ليبيا على مفترق طرق
يصفه الليبيون بالخطر والحرج، ففي شوارع بنغازي، حيث اندلعت الأحداث
الأولى للثورة التي أسقطت العقيد معمر القذافي، يكاد لا يتجاوز العابر بضعة
أمتار حتى يستمع إلى نقاشات الساخطين مما آلت إليه الأوضاع، إلا أنه سخطٌ
يترافق مع مخاوف من إراقة مزيد من الدماء.
تعددت المشاهد على الأرض الليبية والسيناريوات أيضاً، فالفراغ الأمني
والسياسي الذي سببه سقوط نظام القذافي، تحول أزمة تزداد حدة مع مرور الوقت.
البلاد التي باتت تسمى بـ «دولة ليبيا» بعد أربع عقود من رضوخها لتسمية
«الجماهيرية العظمى»، لم تعرف يوماً النظام الحزبي، إذ إن الأحزاب جُرِّمت
إبان حقبة القذافي بعدما مُنعت في العهد الملكي، الأمر الذي ساعد في تفاقم
الفراغ، فيما الصراع على السلطة بلغ أوجه وسط غياب شبه تام للبرامج
السياسية التي من شأنها تهدئة الأوضاع قليلاً، وطمأنة المواطن إلى إمكان
تحسّن حاله.
وبالتزامن مع تدهور الأوضاع بشكل يهدد بخروجها عن سيطرة الحكومة، أعلن
في صفحات التواصل الاجتماعي عن «ثورة جديدة» أطلقت عليها تسمية «تصحيح
المسار»، حدد لها موعد في 15 شباط الجاري، وتداعى نشطاء بنغازي للنزول إلى
الشوارع حاملين مطالب عدة، أهمها حل المؤتمر الوطني العام (البرلمان)
وإعادة انتخابه مجدداً. إلا أن المطلعين على الشأن العام رأوا أن استفتاء
عاجلاً على شكل نظام الحكم بالتزامن مع انتخاب «لجنة الستين» (عضواً) لوضع
الدستور، من شأنهما أن يقلصا التوتر في البلاد، الأمر الذي اعتبره
المطالبون بتصحيح المسار غير كاف، إذ يرى ناشطو الحراك الجديد أن البرلمان
والحكومة يتعمدان تمييع الأمور وتهميش المنطقة الشرقية، مشيرين إلى أن
السلطات لم تتخذ أي قرارات جدية لتصحيح أوضاع المواطنين وتأمين العدالة
الاجتماعية ومكافحة الفساد، إضافة إلى تسريبات مفادها أن البرلمان قد يعمد
إلى تعيين «لجنة الستين» بدل انتخاب أعضائها، ما يثير مخاوف من اعتماد
القوى النافذة مبدأ المحاصصة في تشكيل اللجنة.
ولم تلق الدعوات لتصحيح المسار ترحيباً كبيراً في الأوساط السياسية،
فحزب العدالة والبناء المحسوب على «الإخوان المسلمين» وصاحب ثاني أكبر كتلة
في البرلمان، حذر في بيان رسمي من خطورة الانسياق وراء هذه الدعوات،
مؤكداً أن أعمال عنف وسفك دماء قد تحدث في هذا اليوم، الأمر الذي أثار
حفيظة الكثير من الناشطين الذين أكدوا سلمية تحركهم.
بنغازي، التي اغتيل فيها السفير الأميركي في أيلول (سبتمبر) 2011، وتعرض
القنصل الإيطالي لمحاولة اغتيال في كانون الثاني (يناير) الماضي، غاب فيها
الحضور الديبلوماسي، الأمر الذي اعتبره كثيرون إلغاء لوزنها السياسي، ما
دفع عدداً كبيراً من سكانها إلى حسم أمرهم تعبيراً عن رفضهم لهذا الواقع،
فيما يتردد كثيرون في النزول إلى الشارع في ظل ترقب حذر من دخول جهات أخرى
على خط الحراك لتصحيح المسار والاستفادة منه لبث الفوضى.
الداخلية تحذر من فتنة
وأكد عمر الخضراوي وكيل وزارة الداخلية في حديث إلى «الحياة»، أن
الوزارة على أتم الاستعداد لمواجهة أي أعمال من شأنها المساس بأمن المواطن
ومصلحة البلاد العليا، موضحاً أن الدعوات للتظاهر في 15 الجاري، «تثير
علامات استفهام، ومن شأنها إثارة الفتنة في البلاد»، مشيراً إلى دعوات من
قبل «أبواق القذافي» كما وصفها، للمشاركة في هذه التظاهرات.
وذكّر الخضراوي بالقوانين الجديدة التي لا تسمح بالتظاهر إلا بإذن مسبق
من الوزارة، مبيناً أن الوزارة لم تستلم بعد طلبات للتظاهر في 15 الجاري.
وحذر المسؤول الليبي من «أجندات من مصلحتها زعزعة استقرار البلاد وأمنها»،
داعياً كل الأطراف إلى الحوار من أجل الوصول إلى حل للأزمة. وشدد الخضراوي
على وجود «مؤشرات أكيدة إلى احتمال وقوع شغب وأعمال عنف»، مؤكداً أن مكتبي
رئيس الوزراء الليبي علي زيدان ورئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف «لم
يغلقا الأبواب أمام الحوار للوصول إلى اتفاق يرضي كل الأطراف ويخدم مصلحة
ليبيا».
ورأى وكيل وزارة الداخلية أن ما حققته ليبيا إلى اليوم، «إنجاز في عالم
الديموقراطية يأتي بعد أربعة عقود من الحكم الشمولي»، طالباً من الجميع
فرصة بضعة أشهر حتى يشعر المواطن بالتغير المطلوب.
سرقة الثورة
كثيرون في المقابل لا يتفقون مع مبدأ تحريم التظاهر السلمي باعتبار أنه
يعبر عن «صرخة ألم»، كما قالت لـ «الحياة» هناء القلال أستاذة القانون في
جامعة بنغازي. ورأت القلال أن «حراك 15 فبراير موجه ضد الذين سرقوا الثورة
ووصلوا إلى كراسي السلطة على حساب دم الشهداء». ووصفت التحرك المقبل بـ
«صرخة المواطن التي يرى أمواله تنهب وتهدر وهو لا يزال يعاني التهميش وسوء
الخدمات الأساسية بما فيها الصحة والتعليم»، لكنها في الوقت ذاته، اعتبرت
أن «من الطبيعي أن يحاول البعض الاستفادة من الحراك الشعبي لتحقيق أجنداته
الخاصة، في حين أن آخرين يخافونه لأنه سيفقدهم مكاسب من دون وجه حق، الأمر
الذي قد يكون نقطة بداية الفتن وحرب الإشاعات والتخطيط للسيطرة على
الحراك». وقالت القلال إن «بنغازي، مدينة الثورة الليبية، تتصدى لجميع
المستفيدين من السلطة والمتضررين من الثورة»، وإن «سكانها واقفون بصمود
وثبات للدفاع عن مسار الثورة ومبادئها»، وشددت على سلمية الحراك المرتقب،
ليفهم الساسة الجدد أن الثورة قامت ضد الفساد المالي والإداري وانتهاك حقوق
الإنسان، ومن أجل الأمن والأمان».
ثورة مضادة
في المقابل، تبدو مفارقة أنه في يوم يفترض أن يحتفل الليبيون بالذكرى
الثانية لثورة «17 فبراير»، تظهر دعوات إلى تحويلها فرصة لاندلاع ثورة
جديدة، الأمر الذي عبر عنه الكاتب إسماعيل القريتلي وتساءل في حديث الى
«الحياة»: «ضد من ستكون الثورة؟»، مشيراً إلى أن «الدلائل تؤكد أنها ضد
خصوم سياسيين، أي بعبارة أوضح ضد شركاء في الوطن وليس ضد طاغية استبد
عقوداً».
ورأى أن «هناك من يتكئ على سلوك السلطة الذي لم يرق إلى مستوى طموح
المجتمع، وهذا أمر يصعب الاختلاف فيه، ولكن عند التفصيل نجد أن المقصود من
أداء السلطة أو سلوكها يتلخص في الاستجابة لبعض المطالب التي تنادي بها
جهات أو مدن، أو أحياناً تيارات محددة». واعتبر أن تصحيح المسار «ينبغي أن
ينصب على أولويات تشكل مجتمعة الأسس البنيوية لتأسيس ليبيا الجديدة التي
تمهد بدورها لكل عمليات البناء في المستقبل القريب، وأنه من أولويات تصحيح
المسار تحديد مسار واضح لمحاربة الفساد بلا هوادة في كل المستويات
الرسمية».
ورأى الناشط السياسي الليبي الكاتب عبدالقادر بوهدمة، أن «الثورة تقف
بعد سنتين على مفترق الطرق ذاته الذي سبب الانتفاضة ضد القذافي»، مشيراً
إلى أن «فعل الثورة لم يكتمل، إذ شكلت المعطيات حالاً يمكن تعريفها بالواقع
الليبي المتشابك»، ولفت إلى «بيئة المشهد السياسي الليبي الحالي الذي لامس
مناورات القذافي السابقة بشكل يمكن أن يكون امتداداً لأفكار وطموحات تشبه
ما كان يسمى بالزعيم القائد».
ورأى أبو هدمة في حديث إلى «الحياة»، أن «هذا المشهد لا علاقة له
بالتعبير الواقعي لما تأمله ليبيا والتغيير فيها، الذي غاب عنه وضوح البديل
وما يمكن أن ينتجه ويبتكره من آليات»، وأوضح ان «العودة لقراءة التجربة
الليبية السابقة في اعلان دولة الاستقلال بالتعاون مع المنظومة الدولية،
يمكن أن يجنب ليبيا اجتهادات مشوهة لخصها الإعلان الدستوري الموقت الذي قاد
لاحقاً إلى سلسلة من الإخفاقات وأسس لما تعيشه ليبيا الآن من أزمة تمثلت
في خلق جسم مريض فارغ المحتوى وعديم الجدوى».
وأكد أبو هدمة أن مسألة حمل السلاح «ثقافة ظهرت لإثبات الوجود وخلق
مراكز قوى غير معنية بمفهوم قيام الدولة، الأمر الذي يستدعي حلُّه إشراكَ
العالم الذي ساعد في التخلص من حال القذافي المستعصية»، وذلك نظراً لما
تعنيه ليبيا من مصالح إقليمياً ودولياً.
ويبدو أن ضبابية المشهد وتعدد الآراء حول المطالب الحقيقية للشارع
الليبي ومن يسيطر عليه من قادة الرأي والميليشيات والساسة، تجعل من الصعب
التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في 15 الجاري، خصوصاً وأن مصادر مطلعة أكدت
لـ «الحياة» تحفز مؤيدي النظام السابق في الداخل والخارج لاستغلال
المناسبة، وتأهب القوى الإسلامية لفرض وجودها، في مقابل إصرار الشارع على
تصحيح المسار.
جريدة الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق