من المعلوم ان دول العالم، والدول المتقدمة بالذات،
تضع المؤسسات التعليمية بصفة عامة، وكليات التربية بصفة خاصة، على قمة
اولوياتها (مناهج، وميزانية، ومباني، ومكانة، واهتمام، .. الخ). بل ان
نوعية وطبيعة واهداف البرامج التعليمية، في دول العالم المتقدم، تُسقط رئيس
وترفع اخر. كليات التربية، ينظر اليها في جميع انحاء العالم، وفي الدول
المتفوقة بالذات، كمحاضن للاجيال الجديدة، ومصانع للقادة والكوادر
والمربين، بل وتمثل مستقبل الامة، وميزان تقدمها وتأخرها.
كان الطاغية يدرك
كل ما ذكرناه. كان يدرك ان كليات التربية، هي اهم صرح تعليمي في الوطن،
وكان يدرك ان تحطيم هذا الصرح، يعتبر اولى خطوات القضاء على العلم والتربية
والتعليم في ليبيا. وانعكست رغبات وسياسات الطاغية، على النظرة الدونية
السائدة لدى البعض، تجاه كلية التربية، وانعكست – ايضا- على التقليل من
اهمية دورها تجاه الوطن. كما انعكست على حالة مقر كلية التربية بطرابلس،
فالمبنى – على سبيل المثال – مجرد خرابة وحطام محطم واطلال،
غرف وردهات واثاث ومعامل ودورات مياه وممرات ومرافق وادوات ومكتبة ومقاعد
وجدران وموقع وتهوية وابواب وشبابيك واركان، كل شيء يجلب الحزن والكآبة
والبؤس، فطلبة كلية التربية، يُعذبون في هذا المبنى اللامبنى، ويعانون
الأمرين والأمرين.
طالب وطالبة كلية التربية، معلم ومعلمة المستقبل،
القوة التي تعتمد عليها الاوطان في انتاج اجيال منتجة عاملة مبدعة، هذا
الطالب، وهذه الطالبة البائسة تتلقى الدروس في حفر، تسمى تهكما بالغرف
والفصول والقاعات، التي تذكرك بغرف التحقيق والاعتقال والتعذيب. غرف ذات
ابواب حديدية غليظة سوداء، مغلقة باقفال خارجية قبيحة. وغرف اخرى لا تصلح
الا لتخزين النفايات والخردة واطارات السيارات. نوافذ تُذكرك بمعسكرات
الاعتقال الجماعية، في البوسنة والعقيلة والهرسك. جدران رطبة بالية، تشبه
قطع القماش القبيحة القذرة المهترئة، ومقاعد كأنها اُستخرجت من مقابر في
باطن الارض. مقاعد محطمة قديمة باهتة، اختفى طلاؤها الاصلي، واستبدل بطبقة
من الصدأ، ومزيج من عدة الوان غامقة قبيحة داكنة.
المبنى كارثة تربوية بكافة المقاييس. الكلية اغلقت
معامل الكيمياء، ومعامل الاحياء، لانها تسرب مياه الصرف الصحي الى القاعات
التي تقع في الطابق اسفل هذه المعامل. طلبة كلية التربية لا معامل لهم.
اغلقت المعامل حتى لا يضاف الى الكارثة كوارث اخرى. بل حتى ما نسميه
بالمعامل، هو في الواقع اقرب الى استوديوهات افلام الرعب، منها الى اي شيء
اخر.
اشعر شخصيا بالخجل عندما اتحدث مع طلاب كلية التربية،
عما يجب ان تكون عليه قاعات المحاضرات، او الغرف الدراسية، وعما يجب ان
تحتويه من تقنية وادوات وملصقات واجهزة عروض وتلفزيون وكمبيوترات ومكتبة
صغيرة ومكبرات صوت وشاشات واضاءة وتلفونات وجدران ونظافة وزينة وملصقات
وتهوية وتحوطات سلامة وامان والوان تشرح النفس والروح والصدر. اشعر بالخجل،
وانا اتحدث عما يجب ان تكون عليه الغرفة الدراسية، بينما يجلس طلبتنا في
غرف تشبه غرف الاعتقال.
ترى على وجوه طلبة الكلية الحيرة، بين الرغبة في خدمة
الوطن، وبين واقع الكلية المزري. هذا الواقع الذي يعتبراحتقارا للطلبة
والتربية والكلية والتعليم. فكيف يكون مقر كلية التربية (مرآة الوطن في
العالم المتقدم) اقرب الى المزبلة، من اي شيء اخر. فذلك، وبكافة المقاييس،
إهانة واحتقار وتدمير متواصل للانسان والتعليم والبشر، ومساس بكرامة
ابنائنا، فلذات اكبادنا، وتهميش مقصود، او غير مقصود، لأكثر المؤسسات اهمية
وحساسية في الدولة.
ومما يزيد الطين طينا، اننا نسمع عن الملايين، بل
البلايين التي تُصرف، يمينا ويسارا، من اموال الوطن. فنصف العالم يقتات على
النفط الليبي، وطالب كلية التربية، بطرابلس، العاصمة، لا يجد مقعدا يجلس
عليه للدراسة. محنة ومأساة وكارثة.
طلبة كلية التربية، اذا، يعيشون، تحت ضغوط، لا اول
لها ولا اخر، فعضو هيئة التدريس يتوقع منه الابداع، واولياء امره يطلبون
منه التفوق، والوطن يطلب منه اعداد اجيال عاملة متفوقة منتجة، والدول لا
تلقي اهتماما لكليته، الكل يضغط ويطلب ويتوقع من الطلبة ما شاء له، لكننا
نرمي بهم في مقر، هو اقرب الى المعتقل، من اي شيء اخر.
منذ زمن، والجميع في الكلية، يعبرون عن هذا الواقع
المأساوي، لكن الاصوات بدأت هذه الايام، ترتفع من قبل الجميع. بدأت الاصوات
ترتفع، وبدأت النفوس، نفوس الجميع، تضيق من هذه الاوضاع المزرية.
الادارة، اعضاء هيئة التدريس، العمال، الطلبة، الموظفون، الاباء، الامهات،
اولياء الامور، المجتمع، وكل من لديه ادنى علاقة بكلية التربية بطرابلس، من
قريب او بعيد، الكل يصرخ ويحذر ويستصرخ.
ونفد صبر مجلس الكلية، وصبر عميد الكلية السيد
الدكتور عامر محمد جابر، والذي التقيته في مرة سابقة حول جزء من هذا
الموضوع. لكنه كان في المرة السابقة اكثر حذرا في طرح الموضوع، وكانت نبرة
صوته اكثر هدوء، وكان اكثر دقة في اختيار الفاظه، وتعبيراته، وكلماته، حول
مقر الكلية. لكن نبرة صوته ارتفعت، هذه المرة، وشابها شيء من الحدة، وشيء
من الاحساس بالظلم، وشيء من الغضب. بل سمعته يهمس عن الحاجة الى اصدار قرار
سيادي، بايقاف الدراسة في الكلية، الى ان يتم توفير مقر للكلية يليق
بالبشر.
يقول الدكتور عامر: ان الكلية حوربت في عهد الطاغية
بكثافة، قهرا وتعسفا وظلما، لانها كانت عصية عليه. فالكلية لم تنجر وراء
ترهاته التي كان يسميها “افكارا”، وهي في الواقع افكار تدل على الجهل
والتخلف والغباء. لقد احتاج الطاغية، اثناء ما اسماه بالثورة الثقافية، او
بالاحرى الثورة التجهيلية، والتي كانت تهدف الى تحطيم المفردات الثقافية
للمجتمع الليبي – احتاج الى بوق – ينشر ويدعم ويتبنى ترهات الثورة
التجهيلية، لكن كلية التربية رفضت ان تكون ذلك البوق، ورفضت الانصياع الى
رغباته، فقرر تحطيم الكلية ماديا ومعنويا.
ولتنفيذ هذا المخطط، اختار الطاغية، شخصيات حقودة
مريضة ذات نزعة انتقامية، مثل المدعو احمد ابراهيم، عدو التربية وعدو العلم
والتعليم. اختاره لانه يحمل حقدا على كلية التربية، والتي رفضت قبوله
سابقا، مما ولد لديه حقدا دفينا على الكلية، وعلى اهداف الكلية، بل وعلى كل
ما له صلة بالتربية والتعليم. لم يختره لهذه الاسباب فقط، بل لاستعداده
التام، لتقديم كافة الخدمات لسيده، مهما بلغ مستوى قذارتها. اختار الطاغية،
المدعو احمد ابراهيم، بسبب ما تحمله نفس الاخير، من دناءة وحقارة واستعداد
كامل، للتدمير والخراب والتحطيم، في جميع المجالات. كان الطاغية يأمل ان
ينجح مخطط الغاء كلية التربية نهائيا.
ولتحقيق ذلك، اي لتهميش وتحطيم والغاء كلية التربية،
طلب النظام السابق، عبر المدعو احمد ابراهيم، كليات اخرى (غير تربوية)
لتحقيق نفس المهام والاهداف والاغراض، التي انشئت من اجلها كليات التربية.
كخطوة لالغاء كلية التربية. كان النظام السابق يعتقد ان الكليات غير
التربوية قادرة على القيام بمهام كليات التربية. لكن هذه الكليات فشلت في
اخراج تربويين، لان الاهداف والمهام والاغراض التربوية، خارجة عن نطاق
تخصصاتها. ليس ذلك فحسب بل انعكس ذلك سلبيا، على كفاءة ومستوى وقدرات
الكوادر التعليمية، التي تخرجت، من كليات غير تربوية.
ونتيجة لذلك كان الطالب الليبي، هو اول ضحايا هذا
العبث، فالمدرسون الذين تم تعيينهم في فترة من الفترات، لا علاقة لهم
بالجانب التربوي، ولا علاقة لهم بمهنة وفن ودور التدريس. وهكذا دفع الطالب
الليبي، بل دفع الوطن، ثمنا باهضا للتسيب والعبث والمحاربة والتحطيم
والاستهتار والتهميش الذي تعرضت له كليات التربية في ليبيا. لقد تصدى البعض
لمهنة التعليم، وهم يحتاجون الى اهم عنصر لادائها على الوجه الصحيح، وهو
العنصر التربوي، والذي يبدو انه سقط من اجندة الدولة، واسقط معه جيل كامل.
ثم وكخطوة ثانية، نحو تهميش وتحطيم والغاء كلية
التربية، نُقلت الكلية الى مقرها الحالي المحطم، وهو عبارة عن مدرسة ثانوية
تابعة للتعليم، وذلك لابعاد كلية التربية عن الجامعة الام، وحرمانها من
مقرها الاساسي التاريخي.
ليس ذلك فحسب، بل تم توزيع افضل خريجي كلية التربية،
ممن اوفدوا الى الولايات المتحدة الامريكية، وبريطانيا، وسويسرا، وباقي
الدول المتقدمة – تم توزيعهم – بعد ان اتموا دراستهم التربوية في تلك الدول
المتقدمة، على كليات اخرى، غير كلية التربية، التي ارسلتهم للخارج اصلا.
فحرم بذلك طلبة كلية التربية منهم، وهم في امس الحاجة الى تخصصاتهم
التربوية. حدث ذلك، عندما انهى الموفدون من قبل كلية التربية، دراستهم، في
الدول المتقدمة وعادوا، ليجدوا النظام وقد همش الكلية وحاربها وطردها من
مقرها الاصلي. ومما يزيد الالم الما، ان الكليات غير التربوية، لم تستفد،
على الوجه الاكمل، من خبراتهم وتخصصاتهم التربوية. لقد وزع النظام
الطاغوتي، خريجي التخصصات التربوية، على باقي الكليات، امعانا في تجفيف
منابع كلية التربية، واستمرارا في تحطيمها ومحاربتها وتهميشها.
ليس ذلك فحسب، بل يُنقل الى كلية التربية، باعضاء
هيئة تدريس، تراهم – تلك الكليات المنقولون منها – زائدين عن الحاجة، او
ممن تنقصهم الكفاءة، او ممن لوحظ عليهم، بعض جوانب التقصير، من حيث الجودة
والمؤهل والاداء. وكل ذلك نتاج للنظرة الدونية لكلية التربية، تلك النظرة
التي غرسها النظام السابق في نفوس وعقول ووجدان البعض.
اما بخصوص مقر الكلية الحالي، فيقول السيد عميد
الكلية، ان رئيس الجامعة، قد سبق وان قام بزيارة للمبنى، واطلع على حالته
المزرية البائسة، وعلى جميع مكوناته. واقر بعدم صلاحية المبنى. لكنه رفض في
نفس الوقت، مبدأ صيانة المبنى. على اعتبار ان ادارة الجامعة تفكر في تخصيص
مقر اخر لكلية التربية، يقع ضمن الحرم الجامعي الرئيسي. لكن الاشكالية
تكمن في ان المقر المنتظر، لن يُسلم الى كلية التربية الا بعد فترة طويلة.
ربما بعد عامين على ارجح الاقوال.
ويتساءل السيد عميد الكلية قائلا: كيف يتم الاعتراف
بعدم صلاحية المقر، وترفض صيانته، بل كيف يعترف بعدم صلاحيته، ويسمح في نفس
الوقت، بمواصلة الدراسة فيه، حتى ليوم واحد او اقل، فيجب ان تتم صيانته
فورا، او يجب ان ننتقل فورا الى مقر اخر.
ويرى السيد العميد، ان المبنى تابع للدولة، ولا ضرر
في صيانته وتسليمه في حالة جيدة للتعليم، او لجهة اخرى. كما يمكن استخدامه،
بعد صيانته، وانتقال كلية التربية منه، كمدرسة، او كمركز اداري، او كمركز
للابحاث، او غير ذلك من المجالات العلمية، بمعنى انه لا خسارة للدولة، او
لوزارة التعليم، اذا تمت صيانة المبنى، حتى لو انتقلت منه كلية التربية
لاحقا، الى مبنى اخر.
وعندما تدارس مجلس الكلية الامر، وجد ان ما مرت به
الكلية، من تحطيم ومحاربة وتهميش، هو نتاج لموقف سياسي، ممنهج ومقصود، تم
في الماضي، على ايدي اعلى سلطة في البلاد. ومع اشد الاسف – يقول عميد
الكلية- ان نتاج هذا الموقف السياسي، ربما تكرس في اذهان بعض قادة الدولة
الى يومنا هذا، فنرى، نتيجة لذلك، النظرة الدونية لكليات التربية، وعدم
الاهتمام بها.
كما يرى مجلس الكلية، ان كلية التربية، ما زالت اسيرة
تلك النظرة الدونية. بل صدق او لا تصدق فانه يشاع (هذه الايام) ان هناك
نوايا لدى البعض في الغاء كلية التربية نهائيا. وفي ذلك استمرار لتحقيق
طموحات الطاغية (بصورة غير مقصودة)، كما يعتبر – مجرد التفكير في ذلك- خطوة
تجر الوطن الف عام الى الوراء، فالعالم المتقدم يخصص ويصرف بلايين
الدولارات على كليات التربية بصورة مستمرة. ليس ذلك فحسب بل ان كلية
التربية لا تُخرج فقط المعلم والمعلمة، بل تغذي الوطن بمصممي المناهج،
والاخصائيين، الاجتماعيين، وطواقم ادارة المدارس، والمفتشين، وغير ذلك مما
يقع في نطاق مهام كليات التربية العديدة.
لذلك يرى مجلس الكلية، ان الوقت قد حان، لاحقاق الحق،
ورد الاعتبار الى هذه الكلية العريقة، والتي تعتبر من اهم واقدم الكليات
في جامعة طرابلس، من الناحية التاريخية والعلمية، فهي، مرة اخرى، المصنع
الذي غذى وما زال يغذي، المؤسسات التعليمية، التي تحتضن فلذات اكباد الوطن.
كما يطالب مجلس كلية التربية بطرابلس، بتدخل الجهات
السياسية العليا في البلاد (بالاضافة الى ادارة الجامعة) لاعادة الامر الى
نصابه، ولا يتأتي هذا، الا باعادة الاعتبار الى كليات التربية معنويا
وماديا، وتأكيد دورها الحساس تجاه الوطن، وبعودة كلية التربية الى مقرها
الاصلي التاريخي، في الحرم الجامعي الرئيسي، والذي ما زال صالحا، حتى يومنا
هذا، لاستيعاب الكلية بجميع اقسامها وعناصرها ومكوناتها.
وهذه المطالب – والحمد لله – مدعمة من قبل جميع شرائح
المجتمع، ومنهم الطلبة والموظفين، واعضاء هيئة التدريس، والنخب،
والمثقفين، والصحفيين، والسياسيين، واغلب صناع القرار في الدولة، ممن سبق
وان اطلع على معاناة كلية التربية، المعنوية والمادية. الجميع، يدعمون
مطالب الكلية ويطالبون برد اعتبارها ودعمها والانتصار لها وتطويرها، بسبب
ما فعل الطاغية بهذا الصرح التربوي العظيم.
بل ويرى السيد عميد الكلية ومجلس الكلية، واغلب شرائح
المجتمع – يرون – ان الاستجابة لطلبات الكلية، يعتبر انتصارا لثورة السابع
عشر من فبراير. فالاستجابة الى هذه المطالب، تحمل في طياتها هزيمة لمخططات
الطاغوت الرامية الى تدمير التعليم في ليبيا، وبالتالي تدمير البلاد
والوطن والعباد.
واخيرا، فان كلية التربية في حاجة الى قرار سيادي
سياسي شجاع، ينتصر للمعلم والطالب والتعليم. قرار ينتصر للبشر والوطن. قرار
ينتصر لكرامة الطالب الليبي، ويعيد للتعليم هيبته، ويعيد لكلية التربية
مكانتها واهميتها ودورها ومقرها ورسالتها، تجاه الوطن. والله من وراء
القصد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق