قد يقول قائل بعد أن يقرأ مقالي السابق عن
ليبيا ومنتجات القذافي يا عمي الشيخ لقد تحدثت عن القذافي
وصحبه،ورفقائه،وشِلته،وجلسائه،وأحبابه،ومن صنعهم على عينه ،وبينتَ أن هؤلاء
جميعا – من ذكرت منهم ومن لم تذكر – قد تأثروا بصحبة سنين ورفقة عمر مديد
على حد قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ما الدّخان على النّار بأدلّ
من الصّاحب على الصّاحب.
ولكنك نسيت أن هناك بابا عظيما من أبواب
رحمة الهر سيبقى مفتوحا إلى أن تُشرق الشمس من مغربها ألاّ وهو باب التوبة
.وهؤلاء الذين أشرت إليهم وجعلتهم من منتجات القذافي وصَنعته منهم من تاب
قبل موت صاحبه،ومنهم من تاب عندما رأى أعلام الثوار الأََحرار ترفف عند باب
بيته فخرج صادقا في خروجه يهتف باسم الثورة وأهدافها ، ويكبر مع المكبرين ،
ويصر على تعليق علم الاستقلال على الجاكيت ،والقميص بحجم أكبر مما يعلقه
الثوار الميامين . وبعضهم ولاتنس ذلك عزم أن يعتكف مع نفسه لساعات طِوال
يؤلف الكتاب تلو الكتاب عن حياة صديق العمر ورفيق الدرب ، ويتحدث فيها عن
أسرار جليسه وزعيمه السابق ، وانتبه فمن باب النصح فإن هذا الكاتب قد بَين
أنه كان رغم فساد الأحداث التي يذكرها منكرا بقلبه على القائد الأممي !
والانكار بالقلب أدنى درجات الانكار لتلك المنكرات التي تحدث عنها في حياة
صاحبه .
وغير هؤلاء كُثر ممن تابوا وعادوا فلِما
لم تستثنهم من منتجات القذافي وصنعته التي يصدق عليها بأنها صنعة سودة نودة
على حد قول الليبين .
فأقول لك يا من تسأل وهل يمكن لأحد يؤمن
بالله واليوم الأخر ويدعوا الله أن يموت على ذلك أن يُغلق باب التوبه عل
أحد – معاذ الله – ومع هذا فإني أحب أن أقف معك وقفات :
الوقفة الأولى : أن هؤلاء الأصحاب،
والجلساء، والأحباء، والرفقاء،لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من المراتب
العّليا ،والمقامات الزّكية عند القذافي إلاّ بمجموعة من المفاهيم
والتصورات،وبحزمة من السلوكيات والأخلاقيات ،وبباقة من الأعمال والأقوال
والأحوال جعلت من القائد المردوم يقتنع بصحبتهم، ويرضى عنهم، وينزلهم عنده
منزلة الأصحاب والأصدقاء ، وتلتقي روحه الشريرة ونفسه الخبيثة مع أرواحهم
ونفوسهم ،ويشعر أنهم له سند ، وعضد ، وعون ، وقوة على الباطل والطغيان
ولاتنسى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ” الأرواح جنود مجندة فما
تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “.
فهل تتوقع ياصديقي أن يصحب القذافي أحد ويرافقه لأربعين سنة أو أقل ،وهو قادر على أن يُظهر غير ما يبطن أمام القذافي !! .
هل تتوقع أن القذافي سيجد راحته ، وأُنسه
،وانسجامه، وطَربه مع أُناس يُبطنون له غير ما يظهرون أي يبطنون في نفوسهم
الانكار لأفكاره، ونظرياته، وأخلاقه، وسلوكياته، وأقواله ، وأعماله ، ثم
يُظهرون له الموافقة لأربعة عقود أوأقل ، هل يمكننا أن نصدق هذا ؟. وهل
يمكن لأحد من العقلاء أن يصدق ذلك ؟ .
أم أن الحقيقة التي يعرفها هؤلاء الأصحاب
وينبغي أن يواجهوا بها صريحة في وجوههم هي أن القذافي لم يكن يحرص فقط على
أن يوافقه الأصحاب ويزينون له جنونه ،ويهتفون باسمه. وإنما كان يحرص على أن
يكون هؤلاء شركاء في إفساده وطغيانه لا أجراء لأنه كان يؤمن بمقولته شركاء
لا أجراء ويلتزم بها في حياته معهم خاصة في أبواب الشر والفساد .
إنه كان وفيا لأصحابه ولايقبل أن يستأثر
بالشر دونهم ، وتيقن ياصديقي أنه كان حريصا على توريطهم في كل أعماله
الأجرمية المحيلة والأقليمية والدولية .بل كان يختبرهم في ذلك الاختبار بعد
الاختبار ،والامتحان تلو الامتحان وبحسب نجاحهم تكون درجة القربى منه
،وأعلم أن هذا الأختبار يكون في جميع المواد المتعلقة بالمفاهيم والتصورات
والقيم والأخلاق ،ولابد أن أُذكِّر هنا بأن النجاح في جميع الأسئلة
القذّافية العملية يقابله الرسوب في جميع المواد المتعلقة بقيم وأخلاق
المجتمع الليبي .
المهم نعود للمعقول ونقول لك أيها السائل
ولمن خلفك ممن يُظهر شفقة على الظالم تفوق شفقته على المظلوم ، أن توبة
هؤلاء ورجوعهم إلى الله – إن كنا نتحدث عن توبة شرعية بلا لبس ولاغموض –
تستلزم بعد الندم وحرقة القلب على ما فات من الذنوب، والمظالم، وما مضى من
الأيام والليالي . أن يبادر هؤلاء بإرجاع الحقوق إلى أصحابها مع طلب العفو
والصفح ممن تسببوا له في ظلم، أو قهر، أو طمسوا حقه، أواعتدوا على نفسه ،أو
ماله، أو عرضه وكرامته .
إنها توبة تستلزم أن ينظر هؤلاء بعمق إلى
سبب شقائهم عندما صحبوا القذافي ألاّ وهو المال الذي بين أيديهم، والقصور،
والفلل، والسيارات الفارهة، والشقق المملوكة في أوربا وأسيا وأفريقيا
،ولاتنسى شقق القاهرة والدار البيضاء ،عليهم أن ينظروا في كل ذلك وفي كيفية
اكتسابه وتحت أي صفقة تحصلوا عليه، ثم إن كانوا صادقين في توبتهم
فليُرجعوا ما كان منها من مال عام إلى خزانة الدولة ،وما كان منها لأناس
يعرفونهم فليرجعوها إليهم إن كانوا صادقين حتى تقبل توبتهم وتحسن أوبتهم،
وتسلم لهم أخرتهم.
بل أقول لك أيها السائل إن على هؤلاء أن
يجلسوا مع أنفسهم في خلوة بينهم وبين ربهم ثم ينظروا في أعمالهم السابقة
مع أهلهم واخوانهم في ليبيا ويَزنوها قبل أن توزن عليهم ويطلبون العفو
والمغفرة من الله اذا كان فيها هضم لحقوق الأخرين، أو ظلم،أو وشاية، أو كذب
أو افتراء، أو حتى مقترح اقترحوه على صاحبهم ،أو رأي أشاروا به عليه كان
سببا في ظلم أحد ،أوسجنه، أوتهجيره فضلاً عن قتله, واعلم يا صاحبي أن الناس
قد اطلعت على مقترحات مكتوبة ومرسلة إلى القذافي أو قياداته الأمنية تقترح
القبض ،أوالسجن أو حتى التصفية الجسدية لأناس بأعيانهم من شرق البلاد إلى
غربها وجنوبها وكلها من صَحب مقربون للقذافي أو ماأسميناهم بمنتجات القذافي
وصنعته.
الوقفة الثانية: هب أن التوبة قد توفرت
شروطها لصحب القذافي ،ورفقائه ،ومنتجاته – ونسأل الله لهم من كل قلبي أن
يحققوا ذلك – فإنّ التوبة لا تعني أنّ الإنسان التائب سوف يتغير في يوم
وليلة, وسوف ينقلب عن قيمه ،وأخلاقه التي عاش وتربى عليها مرة واحدة وإنما
الأمر يحتاج إلى عنصرين اثنين بعد توفيق الله عز وجل :
العنصر الأول : البيئة المحيطة بهؤلاء
الأصحاب, والصحبة الجديدة التي تعينهم على التوبة النصوح, وصدق الإنابة
والعودة إلى الله تعالى تلك . البيئة الصحية النظيفة التي يشعرون من خلال
العيش فيها أنهم يتغيرون إلى الأحسن يوما بعد يوم, وأنهم في حالة تغير
حقيقية في مفاهيمهم ،وأخلاقهم وقيمهم ،ومواقفهم ,ولعل من أولويات ذلك أن
يبتعد هؤلاء عن بيئة الحكم ،والسلطة ،والجاه ،والمكاتب التي كانوا يحكمونها
ويترددون عليها صباح مساء وهم حكام مقربون من القذافي حيث كانوا لا يقف في
طريقهم أحد آمرين ناهين ويا ويل من يسأل لماذا ،وكيف ،وأين,ومتى ، ويا
شقاء من يعترض ولو بإشارة أو هز رأس. هؤلاء ابتعادهم عن البيئة السابقة
والصحبة الفائتة قد ينسيهم تلك الأخلاقيات ، والسلوكيات ،والأعمال
،والأقوال التي عاشوا عليها ردحا من الزمان, ومن ها هنا قد يكون قانون
العزل السياسي في صالح هؤلاء إذا نظرنا للبعد التربوي والأخلاقي ولبعد
التوبة الذي نريده لهم وذلك لأنه قد يبعدهم عن البيئة المكانية والزمنية
وعن الأصحاب ،والرفاق الذين عاشوا معهم أيام الطاغية حتى تحسُن توبتهم
،وتستمر انابتهم ، ويصدق رجوعهم إلى الحق وأهله ، ولعل في قصة الرجل الذي
قتل تسع وتسعين نفسا من بني اسرائيل ثم أراد أن يتوب عبرة لهؤلاء ففيها أن
المفتي العالم قال له في أخرها: اذهب إلى أرض كذا فإنها أرض خير, ودع قريتك
هذه فإنها أرض سوء، ثم قبضه الله في الطريق، فاختصمت فيه الملائكة وشملته
رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ذلك.
أما اذا بقي هؤلاء الأصحاب في نفس البيئة
السابقة ولم يغيروا شيئا من عناصر هذه البيئة ،وتشبثوا بالكراسي ، والمناصب
بكل السبل ، وعادوا الى اجتماعاتهم ولقائتهم معا في ليبيا وخارجها خاصة في
فنادق القاهرة وتونس ليتذكروا أيام القذافي التي خلت ، وسهرات الخيمة التي
مضت ويتباكوا عليها وعلى أيامها ثم يبحثوا بعد ذلك عن سُبل الطعن في
الثورة وأبناءها وقادتها ، فيعظمون الصغائر ويغفلون عن كل خير وإيجابية مع
النفخ المستمر في نار الفتنة بكل ألوانها وأشكالها باسم الثورة وأهلها
مستعينين بمد ودعم الجيش الإلكتروني المكون من الأفّاكين والكذّابين الذين
باعوا أخرتهم بدنيا غيرهم فأنّى لهؤلاء أن تصدق توبتهم. وأنّى لهم أن
يستمروا فيها ،وأن يستقيموا في سلوكهم ،وأخلاقهم ،وقيمهم ،ومواقفهم ,أنّى
لهم ذلك حتى وإن أظهروا أنهم قد تبراؤ من قائدهم ومربيهم وصاحب نعمتهم عبر
كل الوسائل المكتوبة والمسموعة والمرئية – خاصة قناة العربية – وأنهم
حريصون على نجاح الثورة ونصح أهلها, فأنّى لهم أن يستقيم العوج الذي صنعوا
عليه فالطبع هنا لا محالة سوف يغلب التطبع والتصنع.
العنصر الثاني: الوقت.
فالوقت جزء من العلاج وهؤلاء قد عاشوا
فترة من الزمن على قيم وسلوكيات مَن صنعهم على عينه ،ورباهم على مفاهيمه
وقيمه لذا فهم وبكل صدق بحاجة إلى وقت طويل حتى يتخلصوا مما تربوا عليه إن
أرادوا أن يصدقوا في توبتهم وأن يخرجوا من الدنيا سالمين أمنين ولعل في
السنوات التي يقرها قانون العزل السياسي عونا لهم على ذلك.
بناء على كل ما سبق فإنّي أقول لصاحبي
السائل لا تتوقع ولا تنتظر أن هؤلاء سيتغيرون بسرعة وسهولة وستثبت لك
الأيام أن بقايا قيم وأفكار ومفاهيم وسلوكيات وأقوال وشعارات القذافي ما
زالت تعيش في رؤوس الكثير من هؤلاء مهما حاولوا إخفائها وسترها {وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق