ما أن انتفض اهالي بنغازي سلميا – معبرين عن فيض الكيل الليبي – دعما لحكومتهم من اجل انهاء الانفلات الامني وظاهرة المجموعات المسلحة، حتى اخذت هذه الحكومة صف تلك الميليشيات واصطفت بكامل شرعيتها التي منحت لها من هؤلاء الاهالي الى جانب هذه المجموعات واخذت في توجيه النداء تلو النداء من اجل عدم المس بها بدعوى انها تتبع الحكومة وتمتلك الشرعية القانونية لاستمرار بقاءها.وفي اليوم التالي للمقتلة التي ارتكبتها بعض هذه المجموعات في حق المتظاهرين وجنود من الجيش الوطني ظهر السيد رئيس المؤتمر الوطني – الذي يتحرك كرئيس للبلاد – ورئيس الوزراء المنتخب ورئيس الاركان في مؤتمر صحفي بالمدينة المنتفضة بنغازي وهم محاطون بجماعة من رؤساء وافراد تلك الميليشيات ليتحدثوا عن الحالة الأمنية.لحل هذا اللغز علينا ان نرجع لتحليل دبلوماسي ليبي نجيب لم يمن علينا بعد بدوره في الثورة اسمه ابراهيم الدباشي، مساعد المندوب العام لليبيا عبدالرحمن شلقم. كتب الدباشي – حتى قبل جمعة بنغازي - في صفحته على الفيس يصف حالة ليبيا اليوم بأنها واقعة في يد قوى يسيطر عليها ليبيو الخارج وهي الجبهة الوطنية والاخوان والجماعة المقاتلة وشخصيات عامة لاتوجه سياسي واضح لديها، هذه القوى اقتسمت المناصب مثل رئاسة المؤتمر والوزراء التي كانت من نصيب الجبهة ، بينما سيطر الاخوان والاسلاميين علي مفاصل الامن والإدارة في البلاد.بذلك تحولت الحكومة المنتخبة لمجرد ظل للظل لأن هذه الحكومة وتلك الشخصيات العامة تعتمد في نهاية اليوم على أمنها الخاص كي تستطيع البقاء، وباحتكار التيار الاسلامي لسلعة الأمن النادرة كان قد تحكم بكل شيء تقريبا.وفي ليلة انتفاض بنغازي لقيادة ليبيا من جديد نحو الدولة ، شاهدنا للاسف كيف تنادى هؤلاء السادة وبدا بعضهم وكأنه جلب من النوم وطلب منه على عجل ان يستخدم شرعيته الشعبية ويبلغ منتخبيه ان تلك الميليشيات شرعية ولايجب مطالبتها بالاخلاء، في نفس الوقت الذي كان المتحدثون باسم بعض هذه الميليشيات يصف الثوار بانهم متعاطو مخدرات وسكاري غوغاء، وبينما كان قناة الدولة تبث فقرات ترفيهية قديمة، ولاحرج عليها في ذلك فقد اصابها ما اصاب مفاصل الامن والإدارة، بينما كان اعلام الدولة وكأنه لم يسمع بما يجري في تلك الساعات الطويلة كان الاعلام التابع لبعض هذه الجماعات المسلحة ينشط في سبيل تغطية المعنى الحقيقي لما يحدث، ويفتح اثيره بكرم لوزراء الدولة ورجالها الذين لم يكفوا عن توجيه نداء الشرعية المرتبكة وربما المرعوبة ايضا امام شرعية اخرى فرضت عليهم تملك سلاح واعلام وايدلوجيا وحتى علاقات دولية لم تحرص كثيرا على اخفائها.ادرك ان هاتين ( الشرعيتين) على اختلاف في المقاصد ، لكن – باستثناء الدكتور المقريف – فأن مسؤولي الدولة الليبة الذين كانوا ينادون في تلك الليلة الناس ان تقر برعية تلك المجاميع هم نفسهم من فشلوا فشلا ذريعا في اقامة الحد الادنى من اساس تكوين الجيش والامن الوطنيين، لقد بدا المشهد كله تجسيدا لمحاولة تلك القوى التعاضد وتبادل الشرعيات حتى تمر الأزمة، كل ماكان يراد الاطاحة به هو كتيبة انصار الشريعة التي تصرفت بذكاء وانسحبت مبكرا ولم يكتب عليها انها قتلت اولاد مدينتها او اطلقت عليهم اوصاف مشينة.عندما وضعت بنغازي الحد الفاصل بين الثورة والدولة، كانت في الواقع تكف ايضا يد هذا التحالف الذي كان يريد ان يمضي بنا بعيدا، وترجع جميع الاطراف – على الاقل التي تريد ان تفهم وتعيش – الى اماكنها واحجامها الحقيقية. وهو فعل كما اظن ليس في صالح ليبيا فقط بل ايضا مفيد جدا للتيار الإسلامي بالذات، وهو تيار امام فرصة نادرة للدخول فعلا في صميم الجسد الليبي واخذ دوره الحقيقي اللائق به، بعد مراجعة خططه واجتهاداته وتطويعها للواقع الليبي، وان لايغتر بمد ولاجزر، فهو مكون ليبي اصيل وجزء من كل ، وان يفهم ان عليه ان يكون جاهزا عندما يحين وقته شعبيا للحكم ليخدم بلده.أول ماينبغي عمله هو الكف عن استفزاز الليبيين في معتقدهم وبرلمانهم وقبل كل شيء امنهم الخاص والعام ، وعدم المن على الناس بما قدم في الثورة ،ولاينهمك في تصنيفهم ودمغهم بما يريد، ان ربط التيار الاسلامي بمعنى السلاح والعنف والاهتمام بفروع الفروع من الامور له تداعيات خطيرة عليه ويجب محبة فيه وفي ليبيا ان ينهج دربا مختلفا غير هذا الدرب، وان يدرك ان زمن المستشار عبدالجليل قد مضى،وان الاحمال التي كانت على عاتقه هي غيرها التي عند خلفه الدكتور المقريف.انا متأكد ان في هذا التيار الكثير من القادرين على الجهر برأيهم وفتح باب النقاش والحوار من اجل غربلة هذا التيار ووسمه بالوضوح بدل هذا الخلط والاختلاط .كثيرا ما استغرب لحجم الطاقة والجهد الذي يبذله الاسلاميون من اجل مهاجمة منافسيهم او فرض قناعاتهم الخاصة على الناس او قضاء الوقت في المكائد من اجل الوصول للحكم، بينما الطريق اليه اظنها اسهل من ذلك كثيرا…مفارقة اخرى صغيرة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق